منوعات

محمد هنيدي.. إذا لم يشرق من الشاشة تسرب من “الميكروفون”!

في حلم دفين، قد يكون التحدث إلى سعاد حسني عبر الهاتف، لترد عليك: “أنا زوزو، انت مين؟”، حلماً آخر منبلجاً من طيات حلم!

في فكرة لامعة قد يكون جرّ سيدة المسرح العربي سميحة أيوب إلى دور كوميدي في السينما جرأة ذات إيقاع عال.

في حظ يشبه أن يكون صدر أمك منشرحاً لك بكل الرضى قد تحظى بمشهد تمثيلي في فيلم مع فاتن حمامة.

في لوثة مزاج عال قد يستدعيك “مكتب الأستاذ يوسف شاهين” لكي يوقّع معك مجموعة عقود للظهور في أفلام شركته.

في انتقال السينما من روح إلى أخرى، بما يشبه الانقلاب لن يبقى من بعده شيء، وسيتغير وجه الكوميديا لعقود، لا بد أن يكون، في ذلك كله، وأكثر: في المسرح والتلفزيون والسينما والإذاعة اسم واحد: محمد هنيدي.

“الصعيدي” الذي أضحك الملايين حين هبط على “مصر” وجامعتها الأمريكية، طالباً، المفروض أنه في عمر العشرين، لا يزال يفعل الأمر ذاته، وبالجدارة ذاتها، بعد مضي 40 عاماً، وإن كان فعلياً يتجه صوب الستين من عمره الواقعي. لا يفقد هنيدي لياقته ولا طاقته ولا “لوك الشباب” الذي يعتمره، ولا حرصه الشديد على المكتسبات الكثيرة التي حصّلها في أكثر من عقدين من الزمن. وهو، إذا لم يطل في رمضان من خلف الشاشة، فسيتسرب، حكماً، من خلف ميكروفون الإذاعة.

منذ عام 2006 قدم “همّام” الكثير من المسلسلات الإذاعية، أحدثها هذا الموسم “ابن النادي”، ليكون الابن الوفي لتقليد ابتدعه جيل من المبدعين الحقيقيين، لم يكن هنيدي يوماً بعيداً عن الانتساب لهم. جيل أحب الإذاعة، قيمة ومقاماً، منذ أن كانت مركبة السحر التي يركبها البسطاء من أماكنهم النائية بعيداً عن مركز المدينة القاهرة والعامرة، إلى قلب الخيال وحراكه وسحره. وهي أيضاً علامة من علامات تفوق “القوى الناعمة” للفن المصري في مرحلة توسعه على رقعة الجغرافيا العربية والتي بلغت مداها الأوسع والأكثر نضجاً في ستينات القرن الماضي، وثالثاً بوصف الاذاعة “شغلة” الفنان الواثق من قدراته، المتمكن من أدواته، والمستعرض لعضلاته الإبداعية (لنقل عضلات أوتاره الصوتية) لكي يقبل بأن يضحّي بالأثر الكبير والسهل، لتنكر الوجه المميت ضحكاً “للخالة نوسة” مع أحمر شفاهها وأخضر خدودها، أو شارب ونظارة “رمضان مبروك أبو العلمين” ومعطفه المضحك.

الإذاعة ملعب الكبار: فاتن وسعاد وفريد وزكي وعادل.. وهؤلاء جميعاً عرفهم هنيدي وأحبهم ومثل إلى جانبهم وربتوا على كتفه ونصحوه. أضحكهم فملك قلوبهم وفتحوا له الأبواب كما فعلنا جميعاً ولم نزل. وهو، بتصميم لافت وجهد لا يتوقف، مهما تعثر في بعض المرات، مصمم منذ بداية الألفية على أن يحجز مكانه في نادي الكبار. لقد أصبح واحداً منهم لأنه، مثلهم، ابتدع أسلوباً، وخلق بصمة، فنسبت إليه “الهنيدية”: رجل ضئيل لكن أحلامه ضخمة، مثل غالبيتنا، لكن الفارق أنه يعبر عن نجاحاته وإخفاقاته بخفة دم، فيما يبدو عليه الصدق والقبول وهو أيضاً.. يغني ويرقص من دون أن يكون “أراجوز” (ليس دوماً) ويظهر ويختفي من دون أن يكون بائع حليب يلف ببضاعته (موهبته) على عتبات المنتجين، بناء على النصيحة التي أسداها له ذات يوم شاهين والتزم هو بها طوال حياته.

قبل سنتين، وفي دور إذاعي لافت، أثبت هنيدي انتماءه إلى فكرة الإذاعة بشكل واضح، وقدم في “كنز مأمون المدفون” (إسلام شلباية، هشام بلال) تنويعاً ساخراً ومعاصراً مستوحى من أكثر شخصيتين متوجتين على عرش حكايات الإذاعة: “شهرزاد ألف ليلة وليلة” و”أبي فرج الأصفهاني” في دراما الإذاعة المجيدة “الأغاني”.

لعب هنيدي في “مأمون” دور عمدة في السبعين من عمره يقرر أن يلجأ إلى كتاب سجل المتزوجين في مسيرته ليحكي لعائلته قصصهم الطريفة موهماً إياهم بأن في الكتاب دليلاً إلى كنز مدفون. يشوقهم كشهرزاد ويسليهم كأبي الفرج، لأن الكنز الحقيقي ليس إلا الحكاية. ذلك الصوت الذي يخرج مجرداً بلا تشويش صورة ولا تأثير حركة ولا تحديق بعيون الجمهور، بعيداً عن التلفزيون والسينما والمسرح، لكي يعلن عن قوته مباشرة: في البدء كان الصوت، في البدء كانت الكلمة فقط. في صلب الخيال هوائي بث إذاعة.

على مدى عقدين، كان هنيدي، رغم عدة اختيارات متلعثمة لم تنقص من رصيده الكثير، هو “كروان الضحك” الذي يصنع أعمالاً تبقى وتدوم كما في “صعيدي” و”همام” و”جاءنا البيان” و”أرض النفاق” و”عفروتو” وغيرها الكثير. ليست “قلشاً” يتبخر بمجرد انقضاء “الإيفيه” وليست لعباً خبيثاً على غرائز وضيعة، بل تدفقاً قوياً في بساطته وواضحاً في أصالته. كم نحن فعلاً بحاجة في أيامنا هذه إلى الضحك الأصيل. كم نحن بحاجة إلى أكثر من هنيدي. لكن ليس لدينا إلا واحد وهو، لسوء حظنا.. مقتنع بنصيحة يوسف شاهين!

البيان