منوعات

ثم ماذا بعد 30 يونيو ؟

بطبيعة الحال لم يتغيّر أي شيء بعد مظاهرات اليوم غير أن خمسة شهداء سينامون اليوم تحت التراب و خمسة بيوت سودانية فقدت أبناءها للأبد- يرحمهم الله؛ لا شيء تغير سوى “قائمة الشهداء” التي ازدادت بإضافة خمسة عناصر جديدة، رقم آخر جديد. ولا شيء غير ذلك.

لم و لن يتغير الواقع السياسي في البلد، و المعادلة السياسية ستظل كما هي، كما أن المخرج الوحيد الممكن من هذا الوضع سيبقى كذلك كما هو، طريق الحل السياسي عبر الحوار و التفاوض، و ستعود ذات القوى التي راهنت على هذا اليوم إلى طاولة التفاوض والتسوية السياسية التي قررت سلفاً أن تمضي فيها، و كأن شيئاً لم يكن.

ما الداعي لهذا الموت إذن ؟ كل شخص عنده حد أدنى من الحس السياسي يعلم أن هناك طريق واحد للحل في السودان هو طريق الحل السياسي، الواقع و موازين القوى تحتم ذلك، وبوضوح شديد. القوى السياسية السودانية، و القوى الإقليمية و المجتمع الدولي كل هذه القوى مع التسوية السياسية في السودان، لأنها المخرج العملي الوحيد الممكن. السيناريوهات الأخرى تتمحور كلها حول الحرب الأهلية و الانهيار.

لاشك أن مقتل متظاهر سلمي هو جريمة تتحملها في المقام الأول الأجهزة العسكرية و من ثم قيادة هذه الأجهزة العسكرية. و دعونا نفترض أن القوى السياسية التي تراهن على المواجهة و هزيمة الآلة العسكرية للدولة لا تتحمل أي مسئولية أخلاقية في ذلك. من الناحية العملية المحضة، تتأكد كل مرة حقيقة أن هذا الطريق لا يؤدي إلى الانتصار الذي تريده قوى الثورة، مع اختلافنا الواضح و الحاسم مع الخيار السياسي لهذه القوى، و الذي هو في وجهة نظرنا خيار فاشل و عبثي، و لكن مع ذلك، فهو لا يتحقق من خلال هذه الطريقة العقيمة الفاقدة لأي جدوى. هذا الطريق لا يقود ما يُسمى بقوى الثورة إلى السلطة، و لا يقود إلى حل لمشكلة البلد.

لا يُمكن اليوم نظريا و عملياً تسليم السلطة و معها مصير كل البلد إلى مجموعات قوى الثورة المشتتة و المتنافرة هي في ذاتها، و لا يُمكن تسليم البلد إلى أحزاب الحرية و التغيير و الحزب الشيوعي. هذا غير ممكن بكل المقاييس. فهذه القوى لا تمثل الشعب، و هي نفسها غير مؤهلة هيكليا و سياسياً لإستلام و إدارة فترة إنتقالية.

و لذلك، فليس هناك سوى طريق واحد معروف هو طريق الحل السياسي عبر الحوار و التوافق. هُنا الجميع مطالب بتقديم التنازلات، و يشمل العسكر بطبيعة الحال، فقيادة المكون العسكري إذا صدقنا جدلاً بأنهم غير مسئولين جنائيا عن الدماء التي تُسفك ( أي لمجرد الافتراض من أجل الجدل لنقل أن قيادة العسكر غير مسئولة عن هذا القتل، لم ترد ذلك أو فشلت في الحفاظ على الأرواح أو أي عذر آخر يردنا العسكر أن نصدقه)، فهم مسئولون أخلاقياً عن حقن و توفير هذه الدماء بالاستجابة إلى مطالب الشارع. أنت في قيادة الدولة فأنت إذن مسئول عن حياة المواطنين، و استمرار الموت بهذا الشكل هو مسئوليتك من الناحية الأخلاقية، مع التأكيد بأن المسئولية الجنائية أيضا في النهاية تطال هذه الأجهزة، تورطاً بشكل متعمد، إهمالاً، استخفافاً ضعفاً، تقصيراً، أو كل هذه الأمور مجتمعة، في النهاية لا يُمكن تبرئة العسكر بأي شكل من الأشكال. على أن هذه الاستجابة، أعني استجابة العسكر لمطالب المتظاهرين، لا استسلاما و كأنهم قد تمت هزيمتهم من قبل هذه القوى و إنما تنازلاً لقحن دماء هؤلاء الشباب المساكين من موقع المسئولية قبل كل شيء .. هذه الاستجابة لا يُمكن و لا ينبغي، و من غير المقبول، أن تكون لصالح مجموعة أحزاب الحرية و التغيير أو أي فصيل سياسي آخر، و إنما هي استجابة لمصلحة الوطن و مصلحة الجميع.

و الحقيقة أن هذه الاستجابة لا يُمكن أن تتم خارج إطار التسوية و الحوار الشامل، حيث لا يُمكن تسليم السلطة إلى لجان المقاومة على سبيل المثال. و بالقدر نفسه، فإن مجموعات قوى الثورة مطالبة بتقديم التنازلات و الجلوس إلى الحوار حتى يكون الحل ممكناً. الأحزاب السياسية التي تدفع بالشباب في معركة هي تعلم أنها غير متكافئة، و تعلم تعقيدات الواقع إلى درجة أنها هي نفسها تراهن على تسوية سياسية و تستخدم المظاهرات كوسيلة لهذه التسوية، عليها هي أيضاً أن تضع في حسابها هذه الكلفة الباهظة من الأرواح، و أن تتحمل مسئوليتها تجاه هؤلاء الشباب، لا أن تتعامل معهم كقرابين بشرية.

فحالياً هناك عملية حوار سياسي قيد الانطلاق، و هي عملية يتمسك المكون بشمولها لكل القوى الوطنية الوطنية، و هو الموقف السليم و الصحيح و ذلك يُحسب لصالح المكون العسكري كموقف وطني مسئول، و إذا كانت هناك تنازلات يقدمها العسكر فلا يُوجد إطار أنسب لهذه التنازلات من إطار الحوار الوطني الشامل ( و ليس إطار الاتفاقيات الثنائية على غرار كورنثيا، عطاء من لا يملك لمن لا يستحق). المشكلة أن مجموعات قوى الثورة ترفض هذا الإطار الشامل و تراهن على خيارات لا قبل لها بها، خيارات عدمية و مستحيلة، و بالتالي و برغم كل التضحيات التي يقدمها الشباب، فإن الواجب و المسئولية تقتضي من الجميع مواجهتهم بهذه الحقيقة التي لا يحبون سماعها و لكن لابد من قولها و لابد منها؛ فعالم السياسة هو عالم واقعي أي محكوم بمعطيات مادية واقعية ملموسة و لا يشتغل وفقا للأمنيات و النوايا الطيبة، و ليس هُناك من سبيل و من مخرج سوى تسوية سياسية على أُسس وطنية مقبولة لكل السودانيين، و ليس لصالح فصيل أو تيار محدد و هذا أمر في منتهى السهولة إذا تجرد الجميع بحق للمصلحة الوطنية.

على قوى الثورة على الشباب بالذات أيضاً أن يساعدوا أنفسهم و أن يوفروا دماءهم بانفسهم لا أن يكونوا مجرد مادة للتضحية و المساومات و المزايدات، يجب أن يتحلوا بالواقعية و بالمسئولية، فهذا العالم محكوم بوقائع و معطيات مادية صلبة و معادلات قوى لايُمكن التعاطي معها من خلال العواطف الطيبة. هُناك واقع سياسي على الأرض عليكم التعامل معه، و لا مجال للحل بغير ذلك.
الله يرحم الشهداء و يصبر أهلهم، و يقدر الخير للشعب للسوداني.

حليم عباس
حليم عباس