تمرد “فاغنر”… أول كوابيس بوتين الأوكرانية
التمرد الذي قام به قائد قوات “فاغنر” يفغيني بريغوجين، في 24 يونيو/حزيران الماضي، جاء في صلب تداعيات حرب روسيا على أوكرانيا، ويشكل أول مؤشر إلى أنها أحدثت تأثيراً مهماً داخل القيادة الروسية ذات التركيب الهرمي، الذي يقف على رأسه الرئيس فلاديمير بوتين.
وتشكل هذه الحركة ذات الطابع العسكري أول عملية احتجاج جماعية علنية، يقودها رجل من الدائرة الضيقة للرئيس، ومن المقربين إليه، والمفوضين سلطات واسعة أمنية، عسكرية، وسياسية. وبالتالي لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد عملية عصيان محدود، انتهى بالاتفاق الذي رعاه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو.
كان مخطط بريغوجين، حسب ما تسرّب من جهاز المخابرات الفيدرالي الروسي، يقوم على اعتقال كل من وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس الأركان، قائد جبهة الحرب في أوكرانيا فاليري غيراسيموف، واحتلال مقر قيادة الجبهة، بانتظار أن تنضم إليه الوحدات المشاركة في الحرب على أوكرانيا.
أهمية تمرد “فاغنر”
ويمكن أن تشكل ردود الفعل الغربية، والتغطية الإعلامية الواسعة التي حظي بها التمرد، مؤشراً إلى أهمية ما جرى في 24 يونيو، عندما أفاق العالم على أخبار تتحدث عن تقدم 400 آلية عسكرية باتجاه العاصمة الروسية، وصدور أخبار، غير مؤكدة، عن مغادرة بوتين موسكو باتجاه مسقط رأسه مدينة سانت بطرسبورغ.
صحيح أن خبر مغادرة بوتين موسكو لم يتأكد، إلا أنه لم يظهر إلى العلن في العاصمة قبل مرور حوالي 60 ساعة على حادث التمرد، حين أطل مساء 26 يونيو في بيان مقتضب، كرر فيه الاتهامات التي وجهها إلى التمرد الذي وصفه بـ”الخيانة” والطعنة في الظهر، وأكد على محاسبة المسؤولين عنه.
وكان لافتاً، من حيث الشكل، الخطاب الذي ألقاه صباح 27 يونيو، ومن خلاله وجّه رسالة استعراض للقوة من داخل الكرملين، وظهر فيه وهو ينزل درجاً طويلاً، سائراً على السجادة الحمراء، وفي استقباله ما يشبه حرس شرف مصغر، ولم يخرج في حديثه عن الخطاب السابق.
بدا بوتين في خطابين مشتتاً واختفت تلك المسحة العالية من الغرور والاعتداد بالنفس
كانت الأوساط تنتظر أن يتوجه بوتين بخطاب مفصل إلى الروس والرأي العام، يشرح فيه ملابسات ما حصل، ولكنه في المرتين اكتفى بخطاب قصير، لم يتجاوز خمس دقائق، أراد من خلاله أن يقلل من شأن ما جرى، رغم الأوصاف الحادة التي أطلقها عليه.
صورة بوتين في الخطابين ليست الصورة المعهودة عنه في السابق، ورغم المساحيق الكثيرة التي اجتهدت في إخفاء وتمويه القلق، بدا التشتت واضحاً على قسمات وجهه، واختفت تلك المسحة العالية من الغرور والاعتداد بالنفس، التي تظهر، عادة، على وجهه، وتصرح بها لغة جسده المتوترة.
تدلّ جملة الوقائع التي اجتمعت خلال ثلاثة أيام من التمرد على عدد من المعطيات، من بينها أن التمرد العسكري الذي حصل أثر بصورة كبيرة على وضع الرئيس الروسي، لأنه شكّل أول تحد صريح لسلطاته من جهة. ومن جهة ثانية، إن النتائج الكارثية لحرب أوكرانيا بدأت تتفاعل داخلياً، وعكس ذلك التعاطف الشعبي مع قوات “فاغنر” في مدينة روستوف، ونزول السكان إلى الشوارع لالتقاط الصور مع أفرادها، وتوديع بريغوجين بعلامات النصر.
القراءات الغربية ترى في حدث التمرد عدة وجوه، وتلتقي عند وجهين. الوجه الأول هو، أن الحرب على أوكرانيا، لن تتأخر في أن تؤدي دوراً أساسياً في تقرير مستقبل الوضع داخل روسيا. والثاني هو أن الرئيس الروسي بدأ يفقد السيطرة على الوضع الداخلي.
ويرى أكثر من خبير غربي في التمرد العسكري بداية لهز الحكم القوي للرئيس الروسي، وينظر هؤلاء إلى الاتفاق الذي قاده رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو محطة مهمة على هذا الطريق، نظراً لما ظهر عن ضعف على بوتين الذي يبدو أنه دخل للتسوية مضطراً.
ويعتبر هؤلاء أن التمرد تعبير فعلي عما يتفاعل داخل الأوساط المعارضة للحرب على أوكرانيا، ويشكل هؤلاء قوة كبيرة صامتة حتى الآن، وجاء التمرد ليرسل إشارة صريحة إلى الضرر الكبير الذي أحدثته الحرب، وإلى الثقل الذي يمثله معارضو الحرب. ويعكس التمرد مسألة مهمة وهي أن الصمت على النتائج الكارثية للحرب لم يعد ممكناً، وستكبر كرة الثلج تدريجياً، لتسير في اتجاه المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الحرب ونتائجها الميدانية والخسائر الكبيرة في الأرواح والماديات.
الاحتجاجات ستصل إلى بوتين
تتركز الاحتجاجات حتى الآن ضد وزير الدفاع ورئيس الأركان، ولكنها ستتجه في نهاية المطاف ضد بوتين شخصياً، بوصفه المسؤول الأول والأخير عن قرار الحرب. ولذلك شُبه ما يواجهه الآن بالثورة الروسية في عام 1917، عندما أطاح البلاشفة القيصر الروسي نيكولا الثاني في خضم الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، مما دفع البلاد إلى حرب أهلية، ومهد الطريق في النهاية لإنشاء الاتحاد السوفييتي.
يبدو من علاج التمرد أن بوتين يعي هذه المسألة، وتصرف على أساسها. ولو كان الاحتجاج يقف عند التضحية بوزير الدفاع ورئيس الأركان، لما توانى عن ذلك، ولكنه يدرك أن القسط الأكبر من المسؤولية يقع عليه، وأن التمرد القادم سيكون موجهاً ضده شخصياً. هناك عدة أسئلة بقيت من دون إجابات، لماذا لم يقمع بوتين التمرد العسكري، وفضّل، على غير عادته، الذهاب إلى اتفاق برعاية لوكاشينكو؟ هل هو عاجز عن ذلك، هل لجأ إلى الدبلوماسية، من أجل تجنب نزاع مسلح يمكن أن يتطور إلى حرب أهلية؟
يدرك بوتين أن التمرد القادم سيصل إليه شخصياً
مهما كانت الإجابات، بدا الاتفاق خارج إرادته، وظهر في خطابه الأول وكأنه غير موافق عليه، حينما أكد على محاسبة “منفذي الجريمة” على حد تعبيره. إلا أن بريغوجين وقادة “فاغنر” الرئيسيين غادروا باتجاه بيلاروسيا، وهذا ترك المجال أمام تأويلات كثيرة. يعرف بريغوجين حجم المخاطرة التي قام بها، ولكن بدا واضحاً أنه درسها جيداً، بما في ذلك عواقبها إذا لم تسر الأمور على ما يرام بالنسبة له، وحتماً ستسير الأمور بشكل سيئ، ومع ذلك ذهب إلى خيار التمرد، وكان في وسعه ألا يذهب لذلك، لو أراد أن يحتفظ بموقعه وامتيازاته.
إحدى الإشارات المهمة هي أن بريغوجين أدار التمرد من داخل مقر مركز القيادة العسكرية للجيش الروسي الجنوبي، الذي سيطرت عليه قوات “فاغنر” في مدينة روستوف، وغادره رئيس الأركان وقادة الجبهة الكبار، لأنهم علموا قبل يومين بمخطط الانقلاب. بريغوجين أكد أن هدف التمرد لم يكن إطاحة الحكومة الروسية، بل الاحتجاج على قرار حل “فاغنر”، ولفت الانتباه إلى إخفاقات القيادة العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبرهن على ذلك من خلال سهولة زحف عناصر “فاغنر” إلى موسكو، وقال إن قواته باتت على بعد 200 كيلومتر من العاصمة، وسلطت الضوء على الفوضى في وزارة الدفاع.
ومن بين التأويلات الكثيرة أن اتفاق خروج بريغوجين وقيادة “فاغنر” هو حصيلة صراع مراكز قوى داخل دائرة القرار في روسيا، لم يصل إلى طرح الثقة ببوتين، بل بدأ يشكك بنتائج الحرب على أوكرانيا، ويطالب بمحاسبة وزير الدفاع ورئيس الأركان. وقد رفض بوتين هذا الطلب، لأنه يدرك مآلاته البعيدة. يختلف بريغوجين عن خصوم بوتين السياسيين الآخرين، الذين انتقدوا قراراته لأن لديه جيشاً قوياً يسنده، ولذلك كانت أول خطوة هي الفصل بينه وبين جيشه، وإخراجه من اللعبة قبل أن يصبح من المستحيل القضاء عليه.
وضمن هذا السياق يمكن وضع قضية الجنرال سيرغي سوروفيكين، نائب قائد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا الملقب بـ”الجنرال هرمجدون”، الذي كشفت محطة “سي أن أن” الأميركية أنه كان عضواً بارزاً في “فاغنر”، وأنه اختفى منذ حصول التمرد. أصر بريغوجين على أنه ليس لديه أي طموحات سياسية، ويأمل فقط أن يتراجع مع مرتزقته إلى مناخ دافئ بمجرد الانتصار في الحرب. ومع ذلك فإن الدور الذي كان يلعبه يشكل خطراً، وكلما حققت قواته انتصارات على الأرض زاد أعداؤه.
كلما حقق بريغوجين انتصارات على الأرض زاد أعداؤه
ويعتبر خبراء أن وحشية بريغوجين وتبجحه هي مقدمة لطموحات شخصية، مع أنه كان يوحي بأن رعاية بوتين له هي مصدر القوة الشخصية. وتبين أنها رعاية، يمكن أن تختفي في أي لحظة، ولذلك رد بريغوجين على اتهامات بوتين بقوله، إن الرئيس “مخطئ بشدة” وإن مقاتليه “وطنيون من وطننا الأم”. وتعهد بأنه “لن يسلم أحد نفسه بناء على طلب الرئيس أو جهاز الأمن الفيدرالي أو أي شخص آخر”. كان هذا يمثل تهديداً مباشراً لبوتين.
انعكاسات تمرد “فاغنر”
يبقى السؤال الأهم هو كيف سينعكس تمرد “فاغنر” على الحرب في أوكرانيا. أول رد فعل أنه قوبل بالبهجة والكثير من الشماتة في كييف، وبدا أن أوكرانيا ستكون حريصة على استغلال ما حصل، خصوصاً ما يتعلق بتدابير لإدارة الوضع على خط المواجهة، وصدرت عدة تصريحات أوكرانية، تركز على ما سيحدث من ترتيب القوات الروسية على طول خطوطها الدفاعية، وهذا أمر يحتاج بعض الوقت حتى تظهر نتائجه الميدانية.
ما حصل مهم جداً لتحديد وضع روسيا داخلياً وخارجياً. على المستوى الداخلي، بات وضع بوتين مطروحاً على بساط البحث، وهذا أمر لم يجرؤ أحد حتى على مجرد التفكير فيه. كما أن الاستقرار الداخلي، الذي سبق الحرب على أوكرانيا، صار من الماضي، وجاء التمرد ليكشف الصورة الفعلية.
أما على المستوى الخارجي، فإنه يجري النظر إلى روسيا على أنها دولة غير مستقرة وضعيفة عسكرياً ولا تشكل تهديداً، باستثناء ما تمتلكه من السلاح النووي، وجيشها بات ضعيفاً، ولذلك جرى الاستعانة بقوات الزعيم الشيشاني رمضان قديروف للوقوف بوجه تمرد “فاغنر”.
وبالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا تشكل روسيا الضعيفة مصدر خطر مضاعف، ولذلك تزداد الحاجة إلى الوقوف خلف أوكرانيا من أجل تقويض نظام بوتين، ومن الآن فصاعداً لن تحسب الكلفة العسكرية في دعم صمود أوكرانيا فقط، بل في فاتورة التعجيل بسقوط بوتين.
سكاي نيوز
العربي الجديد