الاحتلال البريطانى عسكريًّا واقتصاديًّا لمصر: كتاب خطير
من المستحيل تلخيص كتاب كبير وملىء بالمعلومات المهمة عن تاريخ الاحتلال البريطانى لمصر واقتصادياته في مقالة محدودة الكلمات. المؤلف رون جاكز باحث متميز يُجيد العربية، وقضى أيامًا طويلة في دار الوثائق المصرية، ويعمل أستاذًا مساعدًا لتاريخ الشرق الأوسط في جامعة شيكاجو، وتخصصه الأساسى مصر. يشكر الأكاديميين المصريين، وعلى رأسهم خالد فهمى وصابر عرب، اللذان ساعداه في البحث في دار الوثائق المصرية أيام كان ذلك ممكنًا. صدر الكتاب عام 2020، وعلى الفور تيقنت من أهميته.
وذهبت منذ حوالى سنة ونصف السنة لمقابلة الدكتورة، رئيسة المركز القومى للترجمة، ومعى صورة غلافين، الأول لكتاب «فيلق العمال»، لمؤلفه كايل أندرسون، والثانى «الاستعمار الاقتصادى لمصر»، بقلم أرون جاك. واقترحت ترجمة الكتابين لأهميتهما للقراء والباحثين المصريين، وقالت إن كتاب أندرسون مدرج في خطة الترجمة، أما كناب آرون جاك فوعدت بعرضه على اللجنة التي تختار الكتب، وللآن لم يصدر أي منهما.
يُعتبر كتاب اللورد كرومر مصدرًا موثقًا لتاريخ هذه الفترة، ولكن «آرون» يؤكد أن كرومر كان ديكتاتورًا، حتى مع أخلص مساعديه، وكان يرفض أن يُبدى أحد رأيه في تقاريره السنوية، وعندما اضطر لمغادرة مصر عام 1907 أمر مساعديه بحرق جميع الأوراق والوثائق التي تخصه. وبدأ في كتابة مذكراته بعد 8 سنوات من مغادرة مصر، وهو ما يُشكك في أن يؤخذ نص مذكراته قضية مسلمًا بها. وكان رأى كرومر المكتوب مرات عديدة أن المصريين لن يقوموا بأى احتجاجات على الإنجليز، وأن المصريين سعداء بحكم بريطانيا، وعندما أُعلنت حالة الطوارئ والحماية على مصر، بعد إعلان الحرب العالمية، أعرب كرومر عن سعادته بأن الأمور استقرت، ومصر أصبحت جزءًا من الإمبراطورية البريطانية.
كرومر كان ينظر للمصريين نظرة دونية، ويحكى الكتاب عن كيف تحسن الاقتصاد المصرى في العشر سنوات الأولى بعد الاحتلال الإنجليزى وعن زيادة المحصول وارتفاع أسعار الأراضى وضخ استثمارات خارجية. وهكذا اقتنع الإنجليز بأن المصريين سعداء بالاحتلال البريطانى، وأنهم تحت الاحتلال تعلموا كيف يعملون ويكسبون، وتكونت طبقة مستفيدة اقتصاديًّا، بينما أحوال الفلاحين كانت سيئة. وقام الموظفون الإنجليز بإغلاق كل المشاركات السياسية للمصريين، واعتقدوا أن تحسن الأحوال الاقتصادية كافٍ ليسعد المصريين، وفى العقد الأول من الاحتلال كان اهتمام الإنجليز بالسيطرة على الأمور الاقتصادية والمالية، وكان رشدى باشا عن طريق عملائه يسيطر على كل شىء في المديريات، ويبلغ الخديو. وبعد ذلك اهتم الإنجليز بالسيطرة على مديرى المديريات والمآمير والعمد.
وفى بداية القرن العشرين، فتحت البنوك في مصر، وانهالت الاستثمارات، وارتفعت أسعار الأسهم، وصاحب ذلك انتشار الفساد، وكانت بريطانيا تعتقد أن المصريين سعداء بهذا الازدهار. ولكن الصحف بدأت تهاجم السياسة البريطانية، فنشر أحمد حلمى في جريدة اللواء مهاجمًا السياسة الاقتصادية، متهمًا إياها بأنها تنشر الفساد، وأن العائد الاقتصادى يعود للإنجليز والأجانب، وانضم عدد من الكُتاب إلى أحمد حلمى. وقدم الإنجليز مفهومًا بأننا سوف نعطيكم الثروة مقابل أن تتخلوا عن الحرية، وأننا سوف نستمر في حكمكم.
وكان تأثير حادثة دنشواى عظيمًا، فقد بدأت المناشدة علانية بمطلب الاستقلال السياسى والاقتصادى. وقد اكتشف المؤلف عددًا هائلًا من الكتابات الوطنية، وهى موجودة في الوثائق المصرية، ولم تُنشر حتى الآن، ويدعو إلى فتح الأرشيف لنشرها، وهى التي كانت تطالب باستقلال مصر السياسى والاقتصادى، والتى مثلت قلقًا شديدًا عند كرومر وكبار المستعمرين. ثم يناقش المؤلف اقتصاد ما بعد الاستعمار، ويعرج على كتابات لينين وماركس وجرامش وآدم سميث وإدوارد سعيد.
وأدت الحرب العالمية الأولى إلى ارتفاع ضخم في حجم الأموال الموجودة في مصر، وصل إلى 67 مليون جنيه في عام 1919. وخلال الحرب، استنفدت بريطانيا كل الموارد المصرية، وفى النهاية اتهمت بريطانيا الفلاحين بأنهم لا يفعلون شيئًا. وافقت بريطانيا على أن يستخدم الجيش البريطانى أموال الحكومة المصرية عن طريق حساب أطلقوا عليه اسم الحساب المعلق، وخوفًا من ادعاء المصريين أن بريطانيا عادت إلى استخدام السخرة أعلنت أنها سوف توظف الفلاحين المصريين عمالًا في الجيش مقابل أجر الفيلق المصرى، وكانوا يأخذون الأجر من الحساب المعلق. والحقيقة أن الشعب المصرى كان يقرض بريطانيا أجر العمال المصريين، وقد تم إنهاء الموضوع بأن وافق مجلس الوزراء المصرى في عام 1917 على إعفاء بريطانيا من مبلغ 3 ملايين جنيه، وهو الأجر الذي دفعته بريطانيا للعمال. وهكذا تم تشغيل أكثر من نصف مليون فلاح لصالح بريطانيا، مات، وأُصيب، وأُهين الكثيرون منهم، ودفعت مصر أجورهم.
كان الذهب هو عملة التعامل بين مصر وبريطانيا، وكانت بريطانيا تشحن إلى مصر كميات من الذهب لشراء القطن، وكان هذه الشحنات تصل بالسفن من إنجلترا سنويًّا، وأثناء الحرب كانت هناك صعوبات ومخاطر في شحن الذهب، فاعتبرت إنجلترا أن الجنيهات الصادرة من البنك الأهلى المصرى بمثابة جنيهات ذهب. وفى عام 1916 قررت بريطانيا أنها تحتاج إلى الذهب، ولن ترسل ذهبًا ثانية إلى مصر، بل سوف تستولى على الذهب المصرى. واعتبر العسكريون البريطانيون أن مصر لم تسهم بما فيه الكفاية في الحرب، وطالبوا بالاستيلاء على أموال مصر، ولكن المدنيين في الإدارة الإنجليزية رفضوا خوفًا من حدوث قلاقل، وأدى ربط الجنيه المصرى بالجنيه الإنجليزى إلى حدوث تضخم كبير وارتفاع في الأسعار.
وبعد نهاية الحرب، كان حجم الدَّيْن الإنجليزى الذي تستحقه مصر ضخمًا جدًّا، وكان ثانى أكبر حجم دَيْن بعد دَيْن إنجلترا للهند، ولكن الإنجليز فعلوا كل ما يمكن من ألاعيب لعدم سداد الدين إلى مصر، وادعوا أنهم صرفوا هذه الأموال على منطقة القناة. وهكذا سرق الإنجليز بجميع الطرق غير القانونية مجهود المصريين وعملهم، ولم يسددوا ديونهم، وأرادوا الاستمرار حكامًا سياسيين ومسيطرين اقتصاديًّا، ولم يتخيل الإنجليز لوهلة أن الشعب المصرى سوف ينتفض بثورة 1919 العظيمة، التي غيرت تاريخ مصر تمامًا. مات اللورد كرومر قبل الثورة، ولذا لم يعرف أن تصوره بأن الشعب المصرى سعيد بالاحتلال والقمع كان كلامًا فارغًا. وفى اللحظة المناسبة قام الشعب كله ليعلن غضبه ويغير الأوضاع ويسترد حريته.
قوم يا مصرى.. مصر دايمًا بتناديك.
محمد أبو الغار – “المصري اليوم”