الأخبار

الدستور والمسار الدستوري زمن الاضطرابات الداخلية بدول غرب أفريقيا

تعد الاضطرابات الداخلية والأزمات السياسية أو الأمنية حدثا طبيعيا في تاريخ الدول والشعوب، ويعود ذلك إلى التغييرات التي تطرأ على بناها الاجتماعية والسياسية، وازدياد حدة التنافس والتنازع في المصالح بين مختلف فاعليها، وفي الدول التي استقرت فيها الممارسة الديمقراطية وتتوفر على آليات دستورية وسياسية لإدارة الخلافات وحلها سرعان ما يتم احتواء هذه الاضطرابات، مما يحد من مخاطرها على الدولة.

أما في الدول التي ما زالت تحتكم فيها الجماعة إلى القوة في تنظيم المجتمع وممارسة السلطة فإن القواعد الدستورية القائمة هي شكلية لدرجة أنها ستكون عاجزة عن تسوية أي صراع سياسي، وستتحول هذه الخلافات إلى شكل أكثر حدة كحدوث انقلابات عسكرية متكررة، أو نشوب نزاع داخلي مسلح يهدد وحدة الدولة ووجودها.
وتعد الاضطرابات التي تعصف بالنظام الدستوري سمة مميزة لدول قارة أفريقيا، خصوصا تلك الواقعة غربها، إذ تتكرر الانقلابات العسكرية في فترات زمنية قصيرة حتى في الدولة الواحدة، بل إن الانقلاب العسكري يكاد يكون في الوسيلة الطبيعية التي يتم بها تداول السلطة، وغالبا ما يكون الدستور الضحية الأولى لهذه الانقلابات.

كما تشهد هذه المنطقة عددا من النزاعات المسلحة التي اندلعت لأسباب مختلفة، وقد أدت هذه النزاعات إلى تعطيل الدستور واستمرار النظام الدستوري، لكن تقدّم منطقة غرب أفريقيا في الوقت نفسه مثالا ناجحا للدور الذي يمكن أن تلعبه المنظمات الإقليمية كالمجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس) في تسوية النزاعات الداخلية، وإطلاق مسار دستوري انتقالي ينهي حالات الاضطراب والنزاع المستعصية.

يحاول هذا المقال تحليل أثر الاضطرابات الداخلية على الدستور في دول غرب أفريقيا، وكيف يمكن أن يكون المسار الدستوري في المقابل أحد مسارات تسوية الاضطرابات العصية على الحسم عبر استعراض تجربة مجموعة إيكواس في دعم محاولات استعادة النظام الدستوري في المنطقة.
الدستور ضحية للاضطرابات الداخلية
تنبع أهمية الدستور في كونه أداة لضبط التنازع السياسي يتفق عليها الفاعلون السياسيون ويرتضونها حكما عند الاختلاف، ولذا فإن الاضطرابات الداخلية تهدد الدستور لأنها تشكل محاولة لتولي السلطة بخلاف ما ينص عليه، ولذلك فإن هذه الاضطرابات تؤدي إلى تجاهل هذه الوظيفة للدستور، لأنها تؤدي إلى تعطيله أو إلغائه عبر البحث عن أدوات أخرى لحسم الخلاف السياسي.
يجادل كثير من الباحثين في علم القانون الدستوري بأن الانقلاب العسكري ظاهرة غير قانونية ولا يمكن دراستها ضمن إطار الظواهر الدستورية والقانونية لأنها تمثل استيلاء على السلطة بخلاف الطريقة الدستورية المحددة سلفا، فهي بذلك انقلاب على الدستور، ولذلك لا توفر مراجع القانون الدستوري أي تعريف للانقلاب لكنها تجمع على وصفه بأنه تصرف غير دستوري.

تشيع ظاهرة الانقلابات العسكرية في أفريقيا بشكل متكرر لدرجة أنها أصبحت حالة نموذجية مميزة للقارة، وقد شهدت منطقة دول غرب أفريقيا فقط في السنتين الأخيرتين أكثر من 10 انقلابات كان آخرها انقلاب النيجر في 27 يوليو/تموز الجاري، وتكفي الإشارة إلى أنه في مالي وغينيا بيساو مثلا لم يستطع سوى رئيس واحد إكمال عهدته الرئاسية دون أن يتم الانقلاب عليه.

ويعود تكرار هذه الانقلابات إلى أن النظام السياسي في هذه الدول قائم أساسا على القوة بوصفها مصدرا لمشروعية السلطة، ولذلك فغالبا ما يتم الانقلاب على سلطة هي أصلا جاءت عن طريق انقلاب، وهكذا فإنه بدلا من الانتخابات الدورية المنتظمة فإن المنطقة استقرت في ما يبدو على الانقلابات العسكرية الدورية المنتظمة.

وتدل التجربة في منطقة غرب أفريقيا على أن الدستور هو الضحية الأولى لأي انقلاب عسكري، إذ يفسر هذا الانقلاب بأنه تعطيل ضمني للدستور القائم حيث لم يصرح المنقلبون بذلك، وفي غياب الدستور بوصفه مصدرا لشرعية السلطة، فإن القوة ستكون مصدر مشروعية الحكم والإخضاع رغم محاولة المنقلبين ترويج التبريرات التقليدية من قبيل حماية المصلحة العليا للوطن وإنقاذ الدولة، وسوء الإدارة الاقتصادية، والفشل في مواجهة التهديدات الأمنية.

ومن المهم الإشارة إلى أن عددا من الانقلابات العسكرية التي شهدتها هذه المنطقة كان هدفها إسقاط نظام استبدادي تمسك به رئيس الدولة بالسلطة لمدة غير محدودة، فهي كانت محاولة لمنع الرؤساء من تمديد ولايتهم التي انتهت بنص الدستور، وغالبا ما يلجأ هؤلاء إلى تعديل الدستور قبيل انتهاء عهدتهم لإعادتها إلى الصفر حتى يبدؤوا ولاية جديدة بموجب النص الدستوري، وهذا ما حدث مثلا في غينيا عندما أقدم الرئيس ألفا كوندي على تعديل الدستور في مارس/آذار 2020 حتى يمكنه الترشح لولاية ثالثة، إذ كان الدستور يمنعه قبل تعديله، وفاز كوندي بها في انتخابات أجريت في أكتوبر/تشرين الأول 2020، لكنه ما لبث إلى أن انقلبت عليه وحدة من القوات الخاصة في سبتمبر/أيلول2021.
ولكن ثمة ملاحظة نموذجية مشتركة في كل الانقلابات العسكرية التي شهدتها هذه المنطقة، وهي اللجوء مباشرة إلى تعطيل الدستور، وحل كل المؤسسات الدستورية القائمة، ففي الانقلاب الذي شهدته بوركينا فاسو في سبتمبر/أيلول من العام الماضي أعلن زعيم الانقلاب إبراهيم تراوري أنه أطاح بالزعيم العسكري بول هنري داميبا وحلَ الحكومة، وعلق العمل بالدستور، وسارع المجلس العسكري إلى عقد مؤتمر وطني وإعداد ميثاق انتقالي لتنظيم المرحلة الانتقالية، وتولى تراوري رئاسة البلاد خلال هذه المرحلة.

وفي غينيا -التي شهدت انقلابا عسكريا في سبتمبر/أيلول 2021- أعلن أحد قادة الانقلاب أنه اتخذ القرار بالقبض على الرئيس وتعطيل الدستور، والسيناريو نفسه اعتمده المنقلبون في النيجر مؤخرا.

وعادة ما يشرع المنقلبون في اتخاذ ترتيبات تنظيمية لمرحلة انتقالية يديرها مجلس انتقالي يرأسه أحد قادة الانقلاب الذي يعلن التزامه بالعودة إلى النظام الدستوري سريعا، لكنه قد يتماطل في ذلك.

وفي كل الأحوال فإن هذا الالتزام لا يعني السعي لكسب الشرعية الشعبية في الداخل بقدر ما يتعلق في ما يبدو بمحاولة استرضاء القوى الأجنبية والمنظمات الإقليمية، ولا سيما منظمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) التي تسارع في كل مرة يحدث فيها انقلاب في المنطقة إلى إصدار بيانات رافضة له، إضافة إلى إقرار حزمة عقوبات عندما يماطل قادة الانقلاب في العودة إلى الحكم المدني كما حدث في مالي عندما قرر قادة المنظمة إغلاق حدود بلدانهم مع مالي وتجميد أرصدتها لدى المصارف ومنع التحويلات البنكية، وسحب الدبلوماسيين كافة من باماكو.

كما صدّقت المنظمة سنة 1999 على بروتوكول يتعلق بآليات الوقاية من النزاعات وإدارتها وحلها، وحفظ السلام والأمن في المنطقة وألحقته ببروتوكول إضافي بشأن الديمقراطية والحكم الراشد في 2001، وتضمن هذا البروتوكول مبادئ الحكم الراشد ومعايير إيكواس للانتخابات النزيهة والشفافة، إضافة إلى جملة العقوبات التي يمكن اتخاذها ضد الدولة المخالفة لهذه المبادئ، ولقد تزايد دور المنظمة وتصاعد تأثيرها الملحوظ في منع تكرار الانقلابات، ولجم المنقلبين عن المماطلة في العودة للنظام الدستوري، كما غدت بياناتها بمثابة مصدر للنصوص التي تصدرها السلطات الانقلابية لتنظيم المرحلة الانتقالية، وهذا ما يعكس حرص المنقلبين على “استرضاء” المنظمة وتجنب عقوباتها “القاسية” التي قد تكون فردية تستهدفهم وأسرهم والمقربين منهم.
وعلى خلاف الانقلاب العسكري فإن تعطيل الدستور عبر اللجوء إلى الأحكام الاستثنائية يكون بواسطة سلطة شرعية دستورية تتولى هذه الاختصاصات، وتفعل الحالة الاستثنائية بترخيص من الدستور القائم، لكن إشكالية الظروف الاستثنائية تكمن في التوسع في اتخاذ قرارات وتدابير قد تكون مخالفة لروح الدستور، وتنتهك مبادئه الأساسية كالحقوق والحريات، والفصل بين السلطات واستقلال القضاء.

وفي ظل غياب رقابة المحاكم الدستورية على ممارسة هذه الاختصاصات فإن السلطة الحاكمة تملك بشكل متحرر من كل قيد تقدير الموازنة بين درجة خطورة التهديدات والتدابير المناسبة لمواجهتها، وبين درجة التضحية الضرورية بمبادئ الدستور، والتي قد تصل عمليا إلى تعطيله بشكل كامل.

صارت الظروف الاستثنائية في دول غرب قارة أفريقيا هي الظرف العادي في البلد، في حين تكاد تكون فترات استقرار النظام الدستوري واستمراره هي الوضع الاستثنائي، وتكفي الإشارة مثلا إلى بوروندي التي شهدت نزاعا عرقيا دمويا بين الهوتو والتوتسي بداية من 1993 وإلى 2005، ولم تشهد البلاد خلالها انتظاما دستوريا بسبب تكرار حدوث الانقلابات العسكرية رغم اتفاقات السلام الموقعة.

وفي مالي فإن الحالة الاستثنائية معلنة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على إثر الهجوم على فندق راديسون في باماكو، وهي تمدد في كل مرة إلى الآن لأسباب تتعلق بالتهديدات الأمنية في شمال البلاد، ومنذ ذلك الحين يمكن القول إن الدستور كان دائما معطلا.

المسار الدستوري بوصفه إحدى آليات تسوية الاضطرابات الداخلية
لا تقدم منطقة غرب أفريقيا فقط الأمثلة على شيوع الاضطرابات والانقلابات العسكرية المتكررة، بل إنها تقدم أيضا أمثلة ناجحة على حالات كان فيها إطلاق مسار دستوري انتقالي أحد مسارات تسوية النزاعات الداخلية والتحول نحو أنظمة دستورية أكثر استقرارا، وتعد جمهورية بنين مثلا نموذجا ناجحا لهذا المسار، حيث استطاعت تجاوز أزماتها الحادة عبر تنظيم “الندوة الوطنية للقوى الحية”، وقد أعدت هذه الندوة التي عقدت في فبراير/شباط 1991 نصوصا تحضيرية أفضت إلى وضع دستور توافقي وتأسيس نظام أكثر ديمقراطية.
علاوة على ذلك، أخذت منظمة إيكواس تلعب دورا حاسما في دعم عمليات الانتقال والإصلاح الدستوري في المنطقة، وأصبحت آلية إقليمية ذات تأثير قوي بفعل قدرتها الاقتصادية وحتى العسكرية، ففي ليبيريا مثلا تدخلت الجماعة عسكريا عبر مجموعتها لمراقبة وقف إطلاق النار وطردت المعارضة المتمردة من العاصمة مونروفيا سنة 1990، كما دعمت التوصل إلى اتفاق أبوجا الذي أنهى الصراع المسلح سنة 1996، ومنح البلاد فرصة إقامة نظام دستوري مستقر.

وفي 19 يناير/كانون الثاني 2017 قادت إيكواس التدخل العسكري في غامبيا لإجبار الرئيس الغامبي يحيى جامع على ترك وتسليم السلطة للرئيس آداما بارو المنتخب إثر الانتخابات الرئاسية الغامبية سنة 2016.

ختاما، فإن من المؤكد أنه لا يمكن عزل الظاهرة الدستورية في منطقة غرب أفريقيا عن تأثير عوامل أخرى داخلية ترتبط بالبنى الاجتماعية وسيطرة العرقيات، وتدني مستوى التعليم والوعي، وعوامل خارجية أقوى تأثيرا، أهمها الصراع الدولي المحتدم بين قوى متراجعة تصارع لإبقاء نفوذها في المنطقة كفرنسا، وقوى قادمة من بعيد تسعى لالتهام ما بقي في هذه المنطقة الغنية بالثروات، لكن من المؤكد أن على دول المنطقة أن تدرك أهمية ترسيخ ثقافة الديمقراطية والدستور ودولة القانون كآليات تمكنها من تسوية أزماتها السياسية وتضمن لها التحول التدريجي من حسم الخلافات بالقوة إلى حسمها بالاحتكام إلى مبادئ وتقنيات الديمقراطية كالاستفتاء والانتخابات الدورية المنظمة، والجدال السياسي داخل البرلمان وعبر منظمات المجتمع المدني، وضمن إطار إعلام حر وحريات مدنية مصونة.

الجزيرة