رأي ومقالات

السودان أرض البركة والقداسة في القرآن

• قدِم أُصَيْلٌ الهُذَلي من مكة فسألته عائشة رضي الله عنها : كيف تركت مكة يا أصيل؟ ، فقال: تركتُها حين ابيضَّت أباطِحها، وأحجن ثمامها ، وأعذق إذخرها ، وأمْشر سلمها ، فاغرورقت عيناه عليه الصلاة والسلام وقال : *وَيْها يا أُصَيْل .. دَعِ القلوب تَقَر* .. إن الإنسان مفطورٌ على حُبِّ الوطن ، والوطن معنىً مُجَرَّدٌ قابلٌ للتجسيد ، فالجغرافيا وحدها لا تُمَثِّل وطناً ، فلكم يشعرُ الإنسان أحياناً بالغربة في مسقط رأسه ، والديمغرافيا وحدها لا تعني وطناً ، فكثيرٌ ما يغالب الإنسان الوحدة في وسط أهله ، ولكن الوطن هو ارتباطٌ وثيقٌ بين الجغرافيا والديمغرافيا والقِيَم التي هي ذروة سنام الوطن ، فبالقيم وحدها استوطن الرُّسُل والرِّبِّيون مَهاجِرهم ، وقد سالت نفوس أهل السودان على مشافر الردى .. دفاعاً عن امتزاج الجغرافيا والديمغرافيا بالقيم ، وهذا الامتزاج يحمل الكثيرين من أهلها على العودة إليها داخل نعوشهم إن فجأتهم المنية بعيداً عنها ، والقِيَم في السودان تبدء من ارتباط النفوس بالأرض وبركتها وتاريخها وأهلها وذكريات الطفولة والشباب والوشائج بين الناس والإيمان العتيق والوثيق والعميق بوحدانية الخالق والذي ما انفكَّت الأمة السودانية تستمدَّ منه كل قيمها منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة إن شاءالله ، ولئن جاز للوطنية أن تكون وثناً تُبذل في سبيله النفوس في جغرافيا أخرى .. فإن السودان لا تعدو الوطنية ذاتها فيه إلا أن تكون سبيلاً لله وحده.
• إن الذين استهدفوا هذه البلاد حرباً منذ عصور الآشوريين والإغريق وحتى زمان الصهيوغربيين وأعرابهم .. لم يفعلوا ذلك لانفراد السودان بروعة الجغرافيا وما تحويه من ثرواتٍ طبيعية ، وما خاضت هذه البلاد حروبها قط إلا وكان الإله الواحد هو الغاية الأسمى لِقِيَمها ، فلطالما طابت نفوس أهل هذه البلاد بمشاركة نعمة الله عليهم مع الآخرين ، فهم من علَّموا الإغريق القراءة والكتابة التي نهلوها عن إدريس عليه السلام ، ونقلوا عنه إلى الناس فنون الزراعة والهندسة والطب والفلك وفنون التعدين وصناعة الحديد ، وما استنكفوا أن يُساكنهم أهل الأرض في بلادهم ، ولكن أهل الباطل من الناس نقموا من أهل السودان أن يؤمنوا بالعزيز الحميد إيماناً مزج حياتهم كلها بجغرافيتهم حتى غدى هو صميم صلاتهم ونُسُكهم ومحياهم ومماتهم.
• الدراسة المُتأنية للقرآن الكريم والتوراة والإنجيل والتاريخ (غير المُزَيَّف) والعلم والعقل .. جميعها تُؤكِّد بأنَّ هذه البلاد كانت بِذرة الخليقة الإنسانية ، وكانت موئل الأنبياء من لدُن آدم وإدريس حتى موسى وعيسى عليهم السلام ، والأراضي المباركة في القرآن كلها عدا *بكة* تقع في السودان الكبير ، والأراضي المقدسة حصرياً في هذه البلاد وشئٌ من الحبشة .. وإن المُدَقِّق في جوهر المعتقدات التقليدية من غير الإسلام والمسيحية في السودان الكبير (شماله وجنوبه) .. سيجد أنها مُعتقداتٌ توحيديةٌ في عُمقها ولكن يجري التعبير عنها بأنماطٍ وأشكالٍ يفسرها البعض بأنها وثنية أو روحانية ، وبإزالة الفسوق في المعنى الحقيقي لاسم *آمون* ، وبالنظر ألى رسوخه مُبَجَّلاً ومُصَحَّفاً *آمين* في الأديان السماوية الثلاثة وحتى غيرها .. فسيتضح له بعض ما نشير إليه هنا ، والتاريخ والحاضر يؤكِّدان قطعاً بأنه ليس في السودان كله أصنامٌ يُسجَدُ لها ، ومن المتفق عليه أن الإلحاد بأشكاله المختلفة من لا أدرية Agnosticism أو جحودٌ لوجود الإله Atheism لم يكن قط من أهل هذه البلاد في شئ ، وقيمة التوحيد للخالق هذه وحدها وليس غيرها شئ .. هي ما تنفرد به هذه البلاد ، ولم تتغير هذه القيمة بين أهله رغم القصف الثقافي ، وبثِّ الفتن بين أهلها لدرجة الاحتراب الطويل ، ولم تتأثر هذه القيمة في هذه الأرض رغم الانفصال السياسي بين أهلها ، ومن الواضح أنها لن تتأثر بمزيدٍ من الانقسام إن حدث لا قدَّر الله ، وحيث استحال نسف منظومة القيم في السودان رغم أنه كان سهلاً حتى في بلاد الحرمين ، وفيما أن تغيير الجغرافيا مستحيل أصلاً .. فقد انعقد عزم الصهيونية العربية الغربية على ضرورة اجتثاث الديمغرافيا بما تحمله من قِيَم عن الجغرافيا ، وهذا هو بالضبط ما يجري في السودان ، ولا يشبهه إلا الذي يجري في غزة والضفة الغربية.
• من ظنَّ أنَّ هذه الحرب اندلعت لأجل مصالح اقتصادية أو جيوسياسية أو حتى كرسي السلطة .. فقد أبعد النجعة عن حقيقة بواعث هذا الصراع القديم المُتَجَدِّد ، فالواقع والوقائع كُلُّها تُكذِّب ذلك ، فحميدتي وحمدوك حكموا السودان حولين كاملين حُكماً مُطلقاً دون منازع ، والإمارات حصلت على كلما طلبته وأكثر من مصالح سيادية واقتصادية وجيوسياسية ، وإسرائيل مُنِحت التطبيع وفُتِحت لها كل الأبواب والوثائق والتعاون في طرد من شاءت ومصادرة أموال من شاءت واخترقت منظومة اتصالاتنا وبياناتنا ببرامجها الخبيثة وعلى رأسها بيغاسوس ، ولكنَّ الأمة
السودانية التي صَمتت عن استلاب سيادتها ، وغضَّت الطرف عن سرقة ثرواتها من الذهب ومشاريع الهوَّاد وأبوعمامة وغيرها ، وصبرت على سقطة الانبطاح لإسرائيل .. قد انتفضت غضبَى لتغيير مناهج التعليم بمواد الخنا والإلحاد ، واستشاط غضبها باستبدال جمعية القرآن الكريم بإدارة المثليين .. وهذه مجرد مؤشراتٍ عجلى على ما لا يطيق تفصيله مقال من استماتة أهل هذه البلاد على ميراثهم من القِيَم ، وإن السَّعي لإطفاء هذه الحرب يبدء من الوعي العميق بأسبابها وأطرافها وأهدافها ، والإدراك الدقيق لممسكات القوة الوطنية الشاملة التي ينبغي توظيفها.
• الدارس للتاريخ سيعلم تماماً كم هي قليلةٌ *الشعوب المقاتلة* ، والمهتمون بعلم الأجناس Ethnology يعلمون كم هي قليلةٌ *الشعوب الأصيلة* ، والأصالة هنا لا تعني نقاءً عِرقياً بقدر ما تعني نقاءً قِيَمياً يمزج ما بين ثقافة هذه الشعوب وحياتها المجتمعية ، فكل الذين ساكنوا أهل هذه البلاد ردحاً من الزمن حملوا موروثها القِيَمي في جيناتهم ، ومن شاء فلينظر ألى الفرق بين أقباط السودان وأقباط مصر ، ولمحةٌ من أوكرانيا التي يدعمها العالم كله أمام اجتياحٍ لها من دولة أجنبية ، ورغم ذلك يقاوم أبناؤها التجنيد القسري بالقوة للدفاع عنها رغم كل المغريات المادية ، وقارنها بنخوة السودانيين الذين ما إن دعتهم الإنقاذ للجهاد حتى هرعوا ، وهم اليوم قد أجبروا السلطة عملياً وكرهاً على التعبئة العامة التي ما تزال السلطة تكابد إدارة غضبها .. سيتضح الفرق الذي نعنيه ، وهذا هو بعض التميُّز القيمي الذي يراه العالم ، وفشلت كل حكوماتنا الوطنية عن رؤيته .. ناهيك عن توظيفه بما ينفع الناس … ونقول هذا حتى يُصحِّح البعض مفاهيمهم التي يختزلون فيها الصراع إلى أنها حربٌ من أجل استعادة منازل أو استرداد مغانم أو للجلوس على كراسي السُلطة .. فهذه حرب قِيَمٍ وشَرَفٍ وكرامة ، ومُخطِئٌ من ظنَّها غير ذلك.
*شبابٌ ذَلَّلوا سُبلَ المَعالي*
*وما عَرفوا سوى الإسلامِ دينا*
*تَعَهَّدَهمْ فأنبتهمْ نباتاً*
*كريماً طابَ في الدنيا غَصونا*
*إذا شهِدوا الوغى كانوا كُماةً*
*يدكُّونَ المعاقلَ والحُصونا*
*وإنْ جنَّ المساءُ فلا تراهم*
*من الإشفاقِ إلا ساجِدينا*
*شبابٌ لمْ تُحطِّمهُ الليالي*
*ولمْ يُسلمْ إلى الخصمِ العرينا*
*ولم تشهدُهُمُ الأقداحُ يوماً*
*وقد ملأوا نواديهم مُجونا*
*فما عَرَفَوا الخلاعَةَ في بناتٍ*
*ولا عَرَفوا التخنُّثَ في بنينا*
*ولم يتشدَّقوا بقشورِ علمٍ*
*ولمْ يتقلَّّبوا في المُلحدينا*
*ولم يتبجحوا في كلِّ أمرٍ*
*خطيرٍ كيْ يقالَ مثقفونا*.

اللواء (م) مازن محمد اسماعيل