رأي ومقالات

تحليل للقرار الاستراتيجي لرئيس مجلس السيادة بتفريغ العاصمة والمناطق الآمنة من الحركات المسلحة

تحليل للقرار الاستراتيجي لرئيس مجلس السيادة بتفريغ العاصمة والمناطق الآمنة من الحركات المسلحة
مدخل:
في خطوة بالغة الأهمية على المستويين العسكري والسياسي، أصدر رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان قرارًا بتفريغ العاصمة القومية وكافة المناطق الآمنة من الوجود العسكري للحركات المسلحة، في ما يمثل تحولًا محوريًا في إدارة المشهد الأمني والسياسي بالسودان.
ورغم أن الإعلان الرسمي عن القرار تم مؤخرًا، إلا أن المعلومات تشير إلى أن هذا التوجه كان قيد الترتيب منذ أكثر من عشرين يومًا، ما يعكس وجود تحضيرات مسبقة وترتيبات ميدانية دقيقة تمهيدًا لتنفيذه.
متن:
أولًا: نطاق القرار ومضامينه
لا يقتصر القرار على العاصمة الخرطوم وحدها، بل يشمل كافة المدن والمناطق التي تُصنّف على أنها “آمنة”، مثل بورتسودان، دنقلا، القضارف، مدني، سنار، كوستي، وغيرها من المراكز الحضرية المستقرة. ويهدف القرار إلى منع أي وجود عسكري غير نظامي داخل المدن، وتعزيز سلطة الدولة وهيبة الأجهزة النظامية باعتبارها الجهة الوحيدة المخولة بحمل السلاح وتنفيذ المهام الأمنية.
ثانيًا: إعادة تموضع الحركات المسلحة
بموجب هذا القرار، ستنتقل كافة التشكيلات التابعة للحركات المسلحة إلى مناطق تمركزها التقليدية في ولايات دارفور وكردفان، بما يتماشى مع بنود الترتيبات الأمنية الواردة في اتفاق جوبا للسلام. ومن المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة عمليات عسكرية وأمنية مركّزة تهدف إلى تحرير مناطق واسعة من إقليم كردفان وجزء كبير من دارفور من سيطرة المليشيات، وبسط سيادة الدولة على تلك المناطق، في إطار عملية إعادة الانتشار وبناء منظومة أمنية متماسكة.
ثالثًا: المعادلة السياسية-العسكرية الجديدة
– من اللافت أن القرار جاء ضمن معادلة سياسية-عسكرية هادئة تم التوافق عليها خلال الأسابيع الماضية، تقضي بـمنح الحركات المسلحة حقائب وزارية وفق اتفاق جوبا، مقابل انسحابها الكامل من كافة المناطق الآمنة والمراكز الحضرية، التي ستكون خاضعة بشكل كامل لحكومة مدنية مسؤولة، بما يضمن فصل الأدوار بين المسار السياسي والعمل العسكري.
– تُعد هذه الخطوة محاولة جادة لإعادة ضبط العلاقة بين الدولة والحركات المسلحة، وترسيخ مبدأ أن المشاركة السياسية لا تُمنح مقابل التهديد بالسلاح أو التمركز داخل المدن، بل تُنتزع عبر الالتزام بمسار السلام وترتيباته المتفق عليها. كما أن هذه المعادلة تحظى بدعم قوى إقليمية تسعى إلى استقرار الوضع في السودان وتدفع نحو استعادة الحكم المدني.
رابعًا: الدلالات السياسية والأمنية
يحمل القرار دلالات استراتيجية عميقة، من أبرزها:
1. الانتقال إلى الحسم الميداني: يشير القرار إلى نهاية مرحلة التعايش بين القوات النظامية وتشكيلات الحركات داخل المدن، وبداية مرحلة الحسم العسكري في المناطق التي تشهد تواجداً لمليشيات انفصالية أو منظمات مسلحة خارجة عن القانون.
2. إعادة تعريف المشهد الأمني: يمثل القرار بداية لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وترسيخ عقيدة جديدة قائمة على وحدة القرار العسكري والسيطرة الكاملة للدولة على مراكز السلطة والأمن.
3. تهيئة المسرح السياسي لحكومة مدنية: يهدف القرار إلى تهيئة بيئة آمنة ومستقرة تُدار من قبل حكومة مدنية، خالية من أي تهديد مسلح أو نفوذ عسكري غير شرعي، ما يُمهد لاستئناف العملية السياسية وإنهاء الفترة الانتقالية.
4. نزع الشرعية عن النشاط المسلح داخل المدن: يؤكد القرار أن وجود الحركات المسلحة في العاصمة لم يعد مقبولاً سياسياً أو أمنياً، وأن استقرار الدولة يقتضي طيّ صفحة ازدواجية السلطة والوجود المسلح في مراكز الحكم.
خامسًا: التحديات المحتملة
رغم ما يحمله القرار من فرص، إلا أن تنفيذه قد يواجه جملة من التحديات، أبرزها:
– رفض بعض الحركات المسلحة للترتيبات الجديدة، بدعوى عدم تنفيذ كامل بنود اتفاق جوبا، أو رغبتها في الاحتفاظ بوجود رمزي داخل المدن.
– مخاطر الفراغ الأمني المؤقت الناتج عن خروج الحركات دون إحكام السيطرة الفورية من قبل الأجهزة النظامية، ما قد يفتح المجال لتحركات إجرامية أو أنشطة خارجة عن القانون.
– التعقيد القبلي والمناطقي في دارفور وكردفان، الذي قد يعقّد عمليات إعادة الانتشار العسكري ويفرض حسابات إضافية في التفاوض أو الميدان.
مخرج:
نحو مرحلة جديدة من السيادة الوطنية:
– إن القرار القاضي بتفريغ العاصمة والمناطق الآمنة من كافة التشكيلات المسلحة، يمثل تأكيدًا على سيادة الدولة ووحدانية قرارها الأمني والعسكري، كما يُمهّد الطريق نحو مرحلة جديدة قوامها حكومة مدنية مستقرة مدعومة ببيئة أمنية خالية من التجاذبات المسلحة.
– القرار إذا ما تم تنفيذه بدقة، فإن هذا القرار سيكون بمثابة نقطة تحول حاسمة في مسار استعادة الدولة السودانية لعافيتها ومكانتها، وسيمنح القوى الوطنية فرصة حقيقية لاستئناف مشروع بناء الدولة على أسس جديدة قائمة على القانون، والمؤسسية، وتوازن السلطة بين المدنيين والعسكريين.

وليد محمدالمبارك احمد