رأي ومقالات
سليمان عبد الله حمد : محمد الوردي .. فـرح يسكن في وجداننا
يا كمال : أنا فنان ؟!!!!
يا رعي الله صديقي الشاعر الاليف مختار دفع الله , خرج من المرض معافي .. سعدت بعودته لصناعة الفرح .. , ” يارزينة وصي عينيك الحنينة .. ترسم الفرح المهاجر .. أو رائعة الموصلي : ….
إذا شوق الهوي .. صاحاك ورفت في عيون غيمه بشاير الخاطر الضحاك .. سألتك بالذي سواك .. عشان البينا من أحلام .. صبحت يا جميل أوهام .. تعال ارحم عيون جرحاك .. وغيرها من روائع مختار الشاعر المطبوع …
ذهبت وأياه العام 1988 الي الكلاكلة صنقعت محطة (3) .. وكنا علي موعد مع فناننا الكبير الموسيقار محمد وردي .. ووجدناه يقف في الشارع في انتظارنا .. وصاح فينا : يا اخوانا الحكاية شنو .. دي مواعيد دي .. قلت له : لكن يا استاذ اذا كان انت ساكن آخر الدنيا .. ( أوانها لم تكن كل الشوارع رصفت .. وكانت البصات المتهالكه ..التي اقلتنا تتمخطر في الشوارع المكسره .. ) .. سحبنا من أيدينا الي داخل المنزل .. وهو يقول لي .. لكن انا لو ما سكنت هنا ..كنت حأكون محمد وردي .. ؟! .. انا زمان كنت في نمرة أتنين في الخرطوم .. لكن الجماعة عملوها خل .. كل يوم سهر .. الماشي والغاشي .. في أي وقت .. وانت عارف انا بحب الناس وبحب الونسة .. لكن كمان الشغل عاوز موود .. وعاوز الاجواء المناسبة .. وعاوز زمن .. وعاوز تأمل وهدوء .. قلت له : متي تلحن : يا أخي ده زمان كان لازم الواحد يظبط الاجواء .. والزهور .. وغيره .. ولكن حسي ما خلاص بقينا حرفيين .. وضحك .. طويلا …
لكن قالوا بنلحن في فندق اراك ؟ قال لا دي كانت جميله ومستحيلة بس .. لأنها صعبة .., الآن .. في أي وقت في أي مكان .. انا بلحن .. لكن عادة انا بصحي الفجر .. ستة صباحا .. انا بكون يا بشتغل أو بقرأ .. حتي لو ساهرت لي تلاته صباحا … قلت له : بتقرأ شنو .. رد : أي حاجة .. الفنان بدون قراية لا يسوي شيء .. .. , سألني أنت قريت شنو : قلت لة : درست في كلية الآداب قسم فلسفة .. أهو أنا قاري أكتر من منهجكم .. وأثبت ليك .. ونادي علي إبنته الكبيرة صباح.. ( أسماها علي الفنانه اللبنانية صباح ) .. رحبت بنا صباح وهي تضحك .. علي المجادلة وأنضمت الينا .. وقال وردي : أهو صباح برضها درست في نفس الكلية بتاعتك ..لكن انا بعرف فلسفه احسن منكم .. ( ضحكنا صباح وأنا ..) ..أنا قريت أعمال كيركوجارد .. وكانت .. وهيجل .. وقرأت بالطبع الماركسية .. والغزالي .. وابن رشد ..أنا يوميا .. عندي ساعات للقراءة .. ولوما بقرأ كنت بقيت زي الجماعة ديل … ( قلت له ما تقول منو ؟ ) وضحكنا ثانية قلــــــــــــــــــــن له ” الكوامر ” . قال : .. القراءة مهمة لكل مبدع .. انتو في صحافتكم دي لوما قريتو ما بتمشوا لي قدام .. انا بقرأ التاريخ والادب وبحب الشعر جدا و أنت عارف انا واحد من شعراء النقد في اللغة النوبية ولدي العديد من الاشعار ومنها ما تغنيت به ..
كنا نسكن أنا و صديقي المترجم المبدع مجدي النعيم وانا في حدائق المعادي .. خلال حقبة المنفي القاهري .. في ذات الشارع الذي يقطنه فناننا الكبير .. , كان يطلب مني البحث عن كتاب معين .. وأذكر انه طلب مني كتاب محدد للمفكر المصري نصر حامد ابوزيد .. أوان الهجمة علية .. وقبل أنتقاله لأوروبا .. بعد ان حكم عليه ” المتطرفون “.. بتطليق زوجته .. ولم أعثر علي الكتاب الذي سحب من مكتبات القاهرة .. الي هذا الحد كان وردي متابعا ونهما في القراءة ..
سألته يوما : لما لا تعود لإسماعيل حسن .. قال لي ما عندي مانع .. بس فتش لي ديوان الشعر بتاعة . فأتفقنا .
وذهبت للأستاذ السر قدور وهو زميلي في صحيفة الخرطوم التي كانت خلال عقد التسعينات تصدر من القاهرة .. وأعطاني السر قدور ديوان ” حد الزين ” ونقبت فيه مطولا وخرجت بقصيدة مناسبة .. ولكنها كانت حزينة ،
أتصلت بمحمد وردي مساءا وقلت له قولة أرشميدس : ” أيوركا ” .. وجدتها : فقال لي أقرأها : قرأتها .. فقال : خت السماعة وتعال طوالي .. قلت له حيلك عاوزين البياض .. ذهبت له في اليوم التالي وسلمته الديوان فتح القصيدة قرأها , وقام من موقعه في البلكونه .. حيث نجلس ..ووضعها في درج مكتبه وأغلق عليه بالمفتاح .. وقال لي أوعك تكتب عنها!!! وحدثني فيما بعد عبر الهاتف بأنه قام بتلحينها ..
ولكن حين التقيته العام 2002م في ميتشجان بمدينة لانسن حيث قام مؤتمر الدراسات السودانية الاميريكية المكون من مائتي أستاذ جامعي سوداني بالولايات المتحدة بتكريمه .. سأته عن القصيدة ولماذا لم يقدمها أعتذر بأنه دخل في دوامة المرض .. ولم يشأ أن يزد .. واحترمت صمته … لأنني أدركت أن القصيدة السابقة لجدارية درويش ربما بنصف قرن .. حينما تحدثت عن الموت .. بلغة اسماعيل حسن ملك العامية وسلطانها الذي لا يقارع .. ولم يكن محمد وردي الشفيف الرقيق .. وواحد من أعظم الفنانيين الذين أنجبتهم حواء السودانية .. لم يكن بمقدورة أن ينفذها .. وهو تحت الغسيل الكلوي .. حزني علي محمد وردي .. حزن من أدرك خبايا الرجل وعرف الوجه الآخر .. من معاناة الفنان .. قلقه كفنان .. مجدد منافس لقله .. وكثيرا ما ينافس نفسه ” كما كان يقول في لقاءته الصاخبة .. سألت يوما بروفيسور الفاتح الطاهر هذا الفنان العظيم سألته عن سر هبوط الغناء : قال لي غياب محمد وردي ..لأن وردي بتصريحاته النارية في الصحف مع هذا وذاك فهو يجعل الساحة الفنية في حالة يقظة دائمه .. وحراك مستمر .
في بلد لا تحترك الدولة فيه الفنان .. قال لي وردي يوما : يا أخي عمرك سمعت محمد عبد الوهاب ولا عبد الحليم حافظ مشوا غنوا في بيوت العرس .. إلا نحن .. ما عندنا وجيع !!!
كان وردي يركز مناقشاته علي القضايا السياسية ..وهو شديد الحزن علي ما يحدث في البلاد .. وأكثر حزنا علي مصير المعارضة ممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي الذي ضم الوان الطيف السياسي والنقابي والعسكري .. كان يتحدث بحسره ويقول : انا من أوائل من أسهموا في تأسيس التجمع الوطني .. ولكن حينما هربت القيادات السياسية وجاءت إلي الخارج .. نسيت الكثير من الناس .. ولم تعر الفنانيين إنتباهة .. كم فنان ومن كبير من الموسيقيين يعيشون ظروفا سيئة .. لم ينتبه لهم أحد .. وهم يتحملون مسئولية كبيرة .. ويعرفون حجم دورهم في المقاومة ..أنا ذهبت للجنوب وغنيت هناك .. حرصا علي الجنوب وعلي وحدة السودان .. ؟
رحم الله محمد وردي الانسان .. المناضل .. الذي قضي جزءا كبيرا من حياته في السجون والمنافي .. تلك معاناة أجبال .. فكيف بفنان السودان الاول .. , رحمه الله بقدر إسعادة للأجيال التي أسهم في تشكيل وجداناتها .. بقدر ما بث في الناس الفرح في أمسيات أمتدت لأكثر من نصف قرن ..
محمد الوردي : طاب قبرك .. تحفه ملائكة الرضوان .. وهذا الشعب العظيم .. الذي تغنيت به وله .. كله يدعو لك بالرحمة والمغفرة .
توثيقي للفن السوداني
سليمان عبد الله حمد ـ الرياض
[email]ab_fatima2011@hotmail.com[/email]
اللهم ارحمه واحسن اليه