ثقافة وفنون
من أحاجي الدناقلة .. يتوجون كل عام ملكاً جديداً
في «حجوة» الإسكافي الذي أصبح ملكاً متسع للتأمل في مقاصد الحجوة.. وهي تحكي عن أن خواجة «دخيل» من أوروبا كان قد فتح محلاً لإصلاح «وورنشة» الأحذية… فشاهد في السوق صبيًا يمر بصندوقه يعمل في نفس الصناعة «الورنيش» فعينه معه في الدكان. مرت الأيام وفكر الخواجة في العودة لبلده فقال للصبي:«أنا قررت امسكك الدكان ده وراجع أوروبا… تشتغل في الدكان وتعتبر الدكان زي حقك أنا إذا ما رجعت من أوروبا يكون ملكك… وإذا رجعت من أوروبا حارجع لي دكاني ونعمل سوياً.
وافق الصبي على العرض وسافر الخواجة.
الصبي اشتغل في الدكان عدة سنين.. لكنه في النهاية «فلس» وباع الدكان وعاد للورنيش ويحمل صندوقه الصغير في مهنته الأولى واشتغل في السوق.
عاد الخواجة مرة أخرى من بلده ولم يجد الدكان ولكنه وجد الصبي كبر وأصبح شاباً ولا يزال يعمل في نفس المهنة. فسأله فحكى له الحصل. فقال الخواجة للصبي:
ـ انت ما بتنفع في الشغل هنا في البلد دي… رأيك شنو تسافر معي أوروبا؟
بالتأكيد فرح الصبي وسافر مع الخواجة لأوربا وهما في الطريق وقد ركبا البحر غرقت السفينة التي كانا ضمن ركابها ومات كل الركاب غرقاً… إلا أن الصبي تعلق بلوح من الخشب فنجا به عند شاطئ جزيرة قريبة.
عند الشاطئ وجد كثيراً من العساكر ينتظرون فساهموا في انتشاله.. ثم كانت المفاجأة أن عرضوا عليه أن ينصبوه ملكاً عليهم في الجزيرة!!
دهش الصبي لهذا الحظ والطلب، فقالوا له إن من عادات هذه الجزيرة أنهم ينصبون كل عام الذي تحمله الأمواج عند الشاطئ وينجو من الغرق ملكًا على الجزيرة… ويتخلصون من الملك القديم حينما يحول عليه الحول… وذلك بإلقائه خلف الجبل حيث الوحوش، الأسود والنمور والذئاب والثعابين والصقور لتأكله وتقضي عليه!!
زادت دهشة الصبي «الذي أصبح في ذلك الوقت شاباً في مقتبل العمر طبعاً» وسأل الوزراء:
– هل إذا امرتكم بعد تنصيبي ملكاً أكون مطاع الأوامر؟
اجابوه ــ بالتأكيد نعم، وبعد أن تم تتويج الصبي ملكاً على الجزيرة أمر العساكر بأن يستدعوا ويجمعوا كل الشعب بالجزيرة أمامه.
وبالفعل كان كل أفراد الشعب أمام الملك الجديد صبي الورنيش السابق الناجي من الغرق ينتظرون أوامره.
فأصدر تعليماته إلى الشعب فوراً بأن يزيلوا ذلك الجبل وأن يقتلوا كل الوحوش والثعابين ويستصلحوا الأراضي وراء الجبل في الزراعة.
وبالفعل كان للصبي الملك ما أراد.. بعدها عاشت الجزيرة في ظل حكمه آمنة مستقرة قدم إليها بذكائه الكثير.
«الحجوة» نقلناها لكم بتصرف واختصار من كتاب «أحاجي الدناقة» الذي سبق أن طبعته وزارة الثقافة والإعلام مصلحة الثقافة آنذاك كانت للثقافة مصلحة ترعى التراث.
ومقدمة الطبعة تحكي عن أن الأحاجي والأساطير عبارة عن أشهر ما يتداوله الناس في قرى الدناقلة وما حولها وتتشابه من مكان لآخر.
وقد كُتبت باللغة الدارجية حتى يحفظ الناشر أصولها دون تحريف.. إلا أن الفكرة واضحة ولها عدة دلالات ومفاهيم ومقاصد وحكم.
فالملاحظ أن معظم الأساطير القديمة خصوصاً في منطقة النوبة الغنية بالأساطير والأحاجي والحكايات والحكم والتراث… الملاحظ أنها اهتمت بحكايات السلاطين والحكام.. ومنها ما عالج أمور الشعب والرعية ولعل ذلك يكون العقل الجمعي والضمير الجمعي الذي يعنى بالقيم وكثير مما يلي متطلبات بسط العدل والسلام.
و«الحجوة» تعبِّر عن فترة التركية في السودان وشخصية «الخواجة» الدخيل تشير إلى أنه أعجب بجهد وكفاح صبي «الورنيش» السوداني مما استدعاه للاستعانة به في بلده بعدما قنع من خيراً في البلد الذي هاجر إليه وافداً.
ثم «حسب الحجوة» تغرق السفينة وتغرق معها أحلام الخواجة… لكن ضمير وعقلية الراوي الشعبي تريد للإسكافي أن ينصب ملكاً على جزيرة تائهة فينقذ أهلها من عاداتهم ويحيلها لاستقرار ويقود شعبها حتى لو كان إسكافياً… المهم أنه وطني.
في تقديري الخاص أن الوحوش والثعابين خلف الجبل تعبر عن المشكلات والأعداء وأن الجبل يرمز أيضاً للعائق الكبير بين المستقبل المشرق والحاضر الذي يحاصر الناس. أما وقوف العسكر أمام الشاطئ للبحث عن غريق ينتشلونه وينصبونه ملكاً عليهم فهو البحث عن قيادة ملهمة… وها هي تمثلت لهم في شخص إنسان بسيط كادح.
«واللا رأيكم مو كدي»!!
صحيفة الانتباهة