ثقافة وفنون
عناصر تراثية في رواية «عرس الزين» للطيب صالح
٭ الحكي التراثي:
يقوم فن السرد لدى الطيب صالح في رواية «عرس الزين» على تضمين حكاية داخل حكاية أخرى بواسطة قنوات نقل الخبر أو الاسترجاع أو تعدد الأصوات الساردة التي تقدم الحدث من زوايا متعددة الرؤية، وهي وسائل فنية ميزت فن التجريب الروائي العربي الذي يعكس مادة حكائية منتشرة في السودان تعتمد إعادة سرد الحكاية مرات متعددة على المتلقي وبأكثر من لسان، إذ كل شخصية قدمت حدث العرس بطريقتها الخاصة بهدف إبراز علاقتها المتميزة بالعريس الزين أو بالعروسة نعمة.
واستلهم الطيب صالح أسلوب السرد العربي القديم في رواية «عرس الزين» باستدعائه أساليب القدماء في نقل الخبر من خلال عبارة – «قال الرواي» – وهذا الأخير يعود إلى الوراء ليحكي للمتلقين أو للمحكي لهم ما يزعم انه كان سمعه من الرواي (3) الحقيقي الذي حكى الحكاية، ولذلك نقل السارد خبر العرس على لسان ساردة عليمة وسردها يثق المتلقي فيه، فهي من الرواة الثقات في عرف وتقاليد أهل القرية السودانية: قالت حليمة(4) – وهو أسلوب تراثي أدبي نثري وديني قديم استخدمه المسلمون لتدوين الأحاديث النبوية الشريفة، كما استخدمه الجاحظ وأصحاب السير الشعبية لاثبات تاريخية الفعل الأدبي واضفاء الشرعية الواقعية على وجوده (5).
وأضفى هذا الأسلوب التراثي على فن السرد في الرواية طرافة وبساطة في نقل حليمة لخبر العرس، كما كشف في الآن ذاته عن جمالية إبداعية ميزت الرواية وهي تختزل الحاضر في الصفحات الأولى ثم تعود إلى الوراء لتكشف عن الماضي راوياً متوارياً وراء الأحداث والشخصيات كي يمرر أفكاره وتعليماته وآراءه، فالراوي يبدو على مسافة من الحدث، أي لا يندمج فيه ولا ينغمس كذات في وقائعه، وعندما يقدم ذلك الراوي حليمة بائعة اللبن يتردد صدى صوته، فيتدخل في الحدث ويوجهه الوجهة التي يريد، فإذا هو عين تلتقط وتتابع المشهد المتحرك، فيقدم الشخوص ويسبغ عليها أوصافاً استمدها من المعجم الطبيعي الحيواني المتحرك، وبها وصف آمنة والناظر والطريفي وحاج عبد الصمد والشيخ علي، فقدم خبر عرس الزين على لسان أولئك الشخوص، وهو خبر فأل خير كان سبباً رئيسياً في إحداث تغير في القرية رغم أنه حدث مألوف وبسيط، ومع ذلك فهو على غاية من الأهمية فهو مستمد من التراث الشعبي ورموز الأسطورة المتوارثة في القرية السودانية، وبذلك يكون الخبر إعلاناً عن عبقرية تاريخ المكان الزاخر بكثافة الأخبار والحكايات العجائبية الغرائبية، وقد وردت أحداثها في أسلوب ذكي خلخل بنية النمط المألوف في السرد الروائي العربي ليشكل بنية حداثية تراثية، كما لا ننهل من الموروث الروائي العربي، وعلى هذا الأساس كان الراوي «مجرد شاهد متتبع لمسار الحكي ينقل أيضاً عبر الأمكنة، ولكنه لا يشارك مع ذلك في الأحداث، بل هو راوٍ لما عاينه وما سمعه من أخبار الشخوص، فتعددت أدواره من الوصف إلى الحكاية إلى الحدث، كما فسح المجال أحياناً للشخوص الآخرين بتقديم الأحداث ثم نقلها هو على ألسنتهم، فحادثة الحنين مثلاً سردها الرجال الثمانية الحاضرون «يذكرون في عجب كيف أن الحنين هل عليهم من حيث لا يعلمون». ففي هذه الحالة كان الراوي سامعاً للحديث فسرد الأحداث المهمة كما هي دون تحريف، فاختار الألفاظ والعبارات المناسبة لصياغة نص سردي قوامه لغة بسيطة متداولة في الحديث اليومي بالقرية. وبذلك استطاع ان يستثمر هذه اللغة فيحولها من مجرد مفردات منثورة وألفاظ معزولة إلى نسيج من قول قشيب كان له الفضل في الارتقاء بالرواية من لغة الحكايات الشعبية الساذجة إلى لغة سلسة تمزج بين الفصحى والعامية السودانية الهادفة المهذبة، ولم تتطرق الحكايات الشعبية الموظفة في الرواية إلى التفاصيل الدقيقة، فالحكايات لا تذكر من الأحداث أو الصفات إلا ما كان ضرورياً لفهم ما يقوم به النظام.. وهذا النمط السردي يكسب الحدث أهميته فيشد وجدان المتلقي «جاء الناس من بحري وجاء الناس من قبلي.. جاءوا عبر النيل بالمراكب وجاءوا من أطراف البلد بالخيول والحمير والسيارات»، كما تواتر فعل الكون مراراً في الرواية، لأن صيغة الفعل الماضي الناقص كان كثيراً ما تشبع في السرد العربي الشفوي وهي كان ما كان. وطبيعة كان الاستهلالية في الحكايات تنبه ثم تطلع المتلقي على معلومات ماضية لا يعلمها حول الشخوص والأحداث.. كان الزين فريقاً قائماً بذاته.. كان يقضي معظم أوقاته مع شلة محجوب، بل كان في الواقع احدى المسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتقهم. وهذا الفن الحكائي يساهم في عملية السرد والامتاع والتشويق، إذ هو يعتمد الاختزال أو الإجمال في الزمن والحدث: أي تحديد السنوات والأشهر والأيام بالدقة الزمنية التي تمكننا من تحديد زمن القصة.
٭ التراث الشعبي السوداني:
حفلت رواية «عرس الزين» بتراث البيئة الشعبية السودانية بما فيها من ثراء عاداتها وتقاليدها، وتمييز السودان عن غيره من دول آسيا وأفريقيا نقله السارد بأساليب فنية حداثية معتمدة في التجريب السردي وسيلة لوصف البيئة الشعبية بلغتها الذاتية الخصوصية، وهي عامية مجتمع السودان الفلاحي التي تعكس عاداته وتقاليده مجسدة في العرس الحكاية الرئيسة في الرواية. وقد تداخلت فيها الحكايات التي تفصح عن عادات وتقاليد القرية السودانية خلال التحضيرات للخطبة والعرس. إذ لا يسمح المجتمع السوداني المحافظ بالاختلاط بين الفتى والفتاة فيفصل بينهما، كما أنه لا يسمح بعلاقات للحب قبل الزواج لكن الزين خرج عن هذه القاعدة، وكان الفتى الوحيد الذي يعلن عن أحاسيسه ومشاعره فيصرخ عالياً باسم فتاته بت محجوب مرة، وعزة بنت العمدة وحليمة الفتاة البدوية من فريق القوز. واستيقظت البلدة يوماً على صياح الزين (أنا مكتول في فريق القوز) وأعلن على الملأ حبه لعزة، فكان رسول حب مجرم في مجتمع يشنع مثل هذا الحب قبل الزواج.
وتتفنن نساء القرية في ابتكار أساليب متعددة للتعريف ببناتهن كي يفتحن لهن طريق الزواج في قرية محافظة كان الزين فيها رسول الحب ودرويشها، فقدرت النساء على مساررته دون خوف من الرقابة الاجتماعية، إذ يستدرجنه إلى البيوت ويقدمن له الطعام ويسقينه الشاي والقهوة. ويدخل الزين الدار من تلك الدور فيفرش له السرير ويقدم له الفطور أو الغداء صينية وأوان ويؤتى له بعد ذلك بالشاي السادة بالنعناع إذا كان الوقت ضحى والشاي الثقيل باللبن إذا كان الوقت عصراً. وينال الزين هذا الكرم الحاتمي ربما تحظى الفتاة بإعجابه وهو المعروف بحسن اختياره للفتيات الجميلات، فينادى باسم الفتاة المحظوظة فتتم خطوبتها ثم زواجها في مواسم فلاحية خصبة تبركاً بعطائها، إذ تزوجت بنت محجوب في موسم حصاد القمح.
أما الرجال فلهم نظرة أخرى للزين إذا شعروا بأنه مأسور في حب كريمة أحدهم، فيدعوه لخدمة الأرض كما هو شأن العمدة الذي دفع بالزين في أعمال فلاحية شاقة استغلالاً لعواطفه، وضحك منه مقابل موافقته على الزواج من ابنته. فسخر الزين في أعمال كثيرة شاقة يعجز عنها الجن. فكنت ترى الزين العاشق يحمل جوز الماء على ظهره في عز الظهر في حر تئن منه الحجارة مهرولاً هنا وهناك يسقي جنينة العمدة. ولكن العمدة زوج ابنته لغير الزين بعد أن ابتز عواطفه وارهق جسمه بأعوص الأعمال، وبعدها تدارك الزين أمره فتزوج ابنة عمه وهي أفضل فتاة في القرية بمباركة روحانية من الحنين الصوفي، فتعالقت العادات والتقاليد بالأساطير والخرافات. فنعمة الفتاة المتعلمة الوحيدة في القرية هي صاحبة القرار داخل عائلتها هي التي اختارت الزين ووعدته بالزواج. الاحساس في داخلها «وحين يخطر الزين على بال نعمة تحس إحساساً دافئاً في قلبها من فصيلة الشعور الذي تحسه الأم نحو ابنائها، ويمتزج هذا الإحساس بشعور آخر بالشفقة حين يخطر الزين على بالها كطفل يتيم عديم الأهل في حاجة إلى الرعاية».
وكان عرس الزين من نعمة زواجاً أسطورياً نقل القرية من زمن غيبي ماضوي إلى زمن غيبي حاضر قبله البعض ورفضه آخرون، لأنه عرس حدث جماعي. «لذلك لم يكن العرس حدثاً شخصياً يخص الزين وحده بل قضية القرية بأسرها». وقد تباينت حوله المواقف، إذ رفضت آمنة هذا الزواج لأنها كانت ترغب في نعمة عروساً لابنها أحمد، غير أن أهل نعمة رفضوا مصاهرتها فاعتقدت أن السبب هو الخلاف الذي نشب بينها وبين سعدية أم نعمة، وما أن علمت بخبر زفاف الزين ونعمة حتى اعتقدت انها اساءة موجهة لها شخصياً «لأنهم فضلوا الزين على ابنها أحمد، والآن يزوجونها للزين هذا الرجل الهبيل الغشيم، كما رفض أهل نعمة تزويجها من ناظر المدرسة بسبب فارق السن بينهما، إذ كان الناظر مسناً، فلما سمع بأنها ستزف للزين دون سائر الناس أحس الخنجر ينغرس أكثر في قلبه، كما وقف إمام القرية موقفاً معادياً من زواج الزين لأنه يرى في شخص الزين ولياً مؤهلاً من الأولياء الصالحين في القرية. وعادة ما استخدم هذه الشخصيات نقيضاً لرجال المدينة الرسمية ومنهم الإمام. ونتيجة لهذه الكراهية التي يكرهها الإمام للزين حاول حمل العم ابراهيم والد نعمة كي لا يقبل الزين عريساً لنعمة، فألمح له قائلاً «الزين مش رجل بتاع عرس»، وشكل الإمام والناظر وآمنة العناصر الاجتماعية الرافضة لارتقاء الزين اجتماعياً وزواجه من نعمة ومن ثمة الاعتراف به ولياً من أولياء الله الصالحين، من خلال زواجه الأعجوبة الغرائبي حسب الذهنية القروية السودانية التي ترشح صوفيةً.
فوزية سعيد (تونس): صحيفة الصحافة
[/JUSTIFY]