وأعتقد أن هذه الضجة والاهتمام بالاستقالة في غير مكانها؛ فالدولة لا تقوم على أشخاص بل على مبادئ ومنهج وقوانين ومؤسسية، فالشخص مهما طالت إقامته فإنه على آلة حدباء محمول!!
ولا أعتقد أن علي عثمان قدم للسودان ما يستوجب كل هذه الضجة؛ فالرجل الأقل التصاقاً بالجماهير والأقل مخاطبة لها، بل إن الأمور كانت ولا تزال تُدار بواسطته من وراء حجاب، فالرجل لم يكن يمتلك الكاريزما التي تجذب الناس إليه!!
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، أضرب مثالاً بالجنرال ديجول الرئيس الفرنسي السابق والذي قاد المقاومة الفرنسية من وراء الحدود لمقاومة الاحتلال النازي حتى تم تحرير فرنسا!!
الشعب الفرنسي مجَّد ديجول أيما تمجيد وحتى اليوم إن ذكرت في فرنسا كلمة «لُو جنرال» فإن المعنى هو ديجول. ديجول كان من أكثر الرؤساء شعبية حتى خارج فرنسا، الرجل في أوج عظمته هذه قدم استقالته من رئاسة الجمهورية!!
لم تشهد فرنسا تغييراً يُذكر في سياستها بل لم تنل استقالة ديجول مثقال ذرة من الاهتمام الذي نالته استقالة علي عثمان مع الفارق الشاسع بين ما قدم كل منهما لبلده!!
أفذاذ حكموا فرنسا بعد ديجول منهم بومبيدو ومتران على سبيل المثال لا الحصر كانوا من تلاميذ ديجول فمن يا ترى من يشار إليه ويقال إنه تلميذ علي عثمان!!
أعتقد أن عصر القادة الأفذاذ ذوي الكاريزما قد انتهى، فما عادت الدول تبنى على أشخاص والتاريخ يقول إن الدول التي تبنى على أشخاص دول زائلة رغم عظم من انشأها كالإسكندر الأكبر وفرعون وكسرى وقيصر، وقد كان آخرهم هتلر الذي أدخل العالم في حرب ما زال يعاني من ويلاتها حتى اليوم!!
وما بنيت دولة على شخص مهما كانت مكانته وقد نوَّه القرآن الكريم وحذّر المسلمين قبل ممات سيد خلق الله عليه الصلاة والسلام «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»
ماذا قدم علي عثمان للسودان؟! أقولها وبالفم المليان لا شيء!! وإذا كان يعتبر أن مجرد توقيعه لنيفاشا هو أجلَّ ما قدم للسودان فإن الأحداث أثبتت بعد ذلك إنما توقيع نيفاشا كان البداية لتفكيك السودان، ويدعي من يدعي أن الاتفاقية جلبت السلام، لكن واقع الحال أثبت أن ما وقعه إنما كان لتوسيع الحرب وتدويلها!!
علي عثمان المحامي والقانوني يوقع على منح الجنوب تقرير المصير في حين أن ذلك مخالف للقانون الدولي الذي يقول في إحدى مواده إن تقرير المصير يمنح للأمم ذات اللغة والثقافة المشتركة!! هل ينطبق هذا على ما وقعه علي عثمان؟! وقد وافق في اتفاقية نيفاشا على سحب الجيش السوداني رمز السيادة من أرض الجنوب فهل بقي بعد هذا رجاء وأمل في الوحدة؟.
بهذا أعطت الاتفاقية استقلال الجنوب قبل ست سنوات من إعلانه. إقليم بيافرا والذي طالب بالاستقلال من نيجيريا، والتي رفضت استقلال الإقليم ووقف كل العالم وإفريقيا مساندة لنجيريا حتى قهرت التمرد! لماذا وقفت إفريقيا مساندة لنيجيريا؟! الإجابة بسيطة حتى لا تقوم حركات مشابهة في إفريقيا وما أكثرها إن قبلت بمثل هذه الانقسامات!!!. واليوم وبعد توقيع نيفاشا ظهرت حركات مشابهة في مالي والنيجر وإفريقيا الوسطى والقائمة تطول، وقد عجبت لبعض أقلام النفاق وهي تكتب مطالبة منح علي عثمان جائزة نوبل للسلام ورغم أن اتفاقية نيفاشا كثيرة الشبه في أوجه عدة خاصة في القوانين التي أشرف عليها خبراء من جنوب إفريقيا، فقد دافعت اتفاقية جنوب إفريقيا ظاهرياً عن السود لكنها في ذات الوقت حافظت على حقوق البيض وثرواتهم التي اغتصبوها من السود الذين بقوا على حالهم!!
أما نيفاشا فقد دافعت عن الجنوب واتهمت الشمال بكل ما هو قبيح وأخذت منه وأعطت للجنوب، وخلفت ألغاماً وفخاخاً ما فتئت تنفجر، وكلما ظن الناس أنهم قضوا على فتنة إلا واندلعت أخرى ألعن منها!!
كل هذا كان حصاد علي عثمان للسودان، فهل من حصاد أسوأ من هذا أعتقد أن هذه الاستقالة قد تأخرت خمسة وعشرين عاماً بالتمام والكمال!!.
د. هاشم حسين بابكر[/JUSTIFY][/SIZE]
