رأي ومقالات

خرافة التهميش ومشروعية الحرب في جنوب السودان

[JUSTIFY]يقول فيلسوف الحرب الجنرال البروسي كلاوزفيتز: (تكون مهمة الجنرالات هي سوق الجنود إلى الميدان، بينما يجهد رجال السياسة أنفسهم في إقناع الشعب بشرعية الحرب وتبرير إراقة الدماء). جاء ذلك في كتابه الشهير (voeme kriege) (من الحرب) حيث لا يمكن وصف الوغي بصدق، بل بعض ذلك.

دون كلاوزفيتز ملاحظته هذه في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر ولكنها لا تزال سارية المفعول حتى يومنا هذا.
الحرب يقترحها السياسيون كحل للأزمات ويقرها المثقفون ويصنعون لها المبررات، أما القانونيون فسمهم يكون في شرعيتها وانسنتها وأخيراً ويؤمر الجنود بالتنفيذ ويظلون وقودها وحطبها.

هذه هي صيرورة التاريخ التي لا فكاك منها ولجميع الأمم.
عند مقاربة هذه القاعدة مع نزاعات السودان نكتشف حالة التطابق الكامل.
قامت حرب الجنوب الأولي في أغسطس 1955م لأسباب لا علاقة لها بالسياسة، إنما رد فعل على الجشع الذي مارسه قادة الخدمة المدنية وحقدهم نصيب الأسد من لجنة السودنة.
منح الجنوبيون الوظائف الزهيدة بينما استأثر الشماليون بالوظائف العليا.
كأنما عني الاستقلال الشرة بالمطايب التي تركها الإنجليز لتذهب إلى من حظي برضائهم في آخر عهدهم.
غابت النظرة السياسية العميقة وسادت الذهنية البيروقراطية والتي لا تنظر أدني مرتبة الأنف ميلي متراً واحداً.
كان يمكن حل المسألة بالتسامح في المؤهلات، فكلية غردون لم تكن أكثر من مدرسة ثانوية، فكان يمكن تأهيل الموظفين الجنوبيين الذين درسوا في مدارس الإرساليات إلى مستوي قريب من الكلية أن لم يكن معادلاً لها.
وقعت أحداث توريت ولم يهتم بها أحد من صفوة الخرطوم.
لم يخف رئيس الوزراء وكان أيضاً وزيراً للداخلية رجليه بالطيران إلى موقع الحدث للمتابعة وإظهار الاهتمام، بل اكتفي بتكوين لجنة لم ينشر تقريرها في أوانه.
الآن نري كبار المسؤولين يهرعون إلى مواقع الأحداث ويعبرون الشعب حتى يتم إخراج العدو.
هذا هو واجب الحكومة أي حكومة في العالم عند حدوث أزمة فما دهي حكومة الاستقلال الأولي؟ في الوقت الذي انشغلت فيه الصحافة البريطانية بمتابعة ما يجري في جنوب السودان عند اندلاع الحرب الأولي كانت صحافة الخرطوم مشغولة بالمعارك الطاحنة بين الفرقاء.
في الوقت الذي اجتهدت فيه الحركة الإسلامية الفتية في متابعة أحداث الجنوب لجهة فقدانها أبرز كوادرها الشابة أحمد محمد على الشهير بمولانا.
لو اهتمت حكومة الحكم الذاتي بما أسمته بأحداث الجنوب وأوجدت الحل التوافقي المقبول وأعملت مشرط السيسة المرن عوضاً عن عصا الإدارة الغليظة لتغير التاريخ ولصار السودان وجنوبه في موقف مختلف عن حال اليوم.
أدي موقف الحكومة المتهمون من الأحداث في الجنوب إلى رد فعل خارجي لم تحسب له حساباً، فقد وجدت الصليبية العالمية ضالتها التي كانت تبحث عنها زماناً.
حرب متخيلة بين الإسلام والمسيحية يتم فيها حشو المكون الجنوبي بما هو مجرب من ايديولوجية الاضطهاد لإطلاقه باتجاه المركز السودان لتدميره وتفكيكه ثم محاولة بنائه على أسس جديدة يتم فيها تغييب نواة الإسلام الصلبة.
انها إيجاد الشرعية وصياغة الايدولوجية وإعداد الإستراتيجية لنزاع هو في الأصل مطلوبي صغير لحقوق مكتسبة بعد الاستغلال تمحورت حول الفيدرالية والتنمية ولكن الصليبية إرادتها أكبر وأكثر من ذلك.
حرب دينية متوهمة تنال من العالم الإسلامي أكثر ما تنال من السودان ذاته.
غاب العقل وطمسه معالم الحقيقة وأصبح رجل الدولة منغمساً في معالجة الآثار اليومية للأزمة مصدقاً وتجاوباً مع الشعارات التي نحتها الأعداء القدامى.
وافق السودان على لبس جلباب ليس على مقاسه ودون قامته وقبل باستيراد الحلول من دول مجاورة تتراجع فيها مساحات الحرية والحقوق سنيناً ضوئية.
وبعد كل التنازلات التي قدمتها حكومة ثورة مابو في اتفاقية أديس أبابا، حيث نال الجنوب وضعاً مميزاً ولكن بعد عشر سنوات من الحكم الذاتي الكامل، إذ لم يول شمالي واحد منصباً مهماً في الجنوب، أكتشف الرئيس نميري زيف الشرعية القائمة ومطل شعارات التنمية.
فمع كل متقدم من دعم للجنوب من الداخل والخارج لم يشهد إنسان الجنوب المعذب خروجاً من حالة الفقر والتخلف والعرى.
لقد استحالت الفيدرالية قبلية بدائية والتنمية إلى سرقة مخجلة.
فجاء العقلاء إلى الخرطوم يشكون. إن لا حل إلا في التقسيم إلى ثلاثة أقاليم لعلها تخفف من هيمنة القبيلة المستفيدة.
أصدر المشير النميري الأمر الجمهوري رقم (1) بتقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاث أقاليم أسوة بتقسيم الشمال إلى ستة.
هنا ثارت ثائرة القبيلة المهيمنة.
ولكن كيف يكون رد فعلها؟ هل تقول إن نميري وجوزيف لاقو أرادا تشتيتها وثلاثة أقاليم لا ننال الأغلبية إلا في احدها؟
وبالتالي لن نحصل على منصب رئيس المجلس التنفيذي العالي الذي يجعلنا نسيطر على الحكومة الإقليمية ونعين المراسلات بعد تعيين كل الوزراء من القبيلة المهيمنة.
كانت فترة عشر سنوات من الاستيراد بحكم الجنوب كفيلة بإنتاح قوة ناعمة من أبناء القبيلة فالمنح الدراسية إلى جامعات الغرب الراقية قد رفدت القبيلة بالكوادر الأكاديمية التي تفهم مقتضيات السياسة الجديدة في الغرب بشعارات الحقوق، الحكم الرشيد الذي لم يكن لنميري منه نصيب. جاء تمرد قرنق في العام 1983م والغرب الاسلاموفوبيا واليمن المسيحي قد امسك بالسلطة في عهد ريغان ونائبه جورج بوش الأب يقود ما سمي بالتحالف المسيحي وجماعة ((المحافظون الجدد)).

صحيفة الرأي العام
محمد حسين زروق
ع.ش[/JUSTIFY]

تعليق واحد

  1. الحرب الجنوبية الدائرة حالياً، هي الدليل القاطع أن تحليلات الغرب وفهمه عن المشكلة خاطيء ومغبوط لأبعد الحدود.
    بالتأكيد لقد كان الجنوب أكثر أماناً عندما كان السودان واحداً، وسيكون أقل أماناً في مقبل الأيام، هذه دولة المسيحيين واللا دينيين التي أرادوها.
    كانت مساهمة الجنوب في الدخل القومي بالسالب منذ استغلال السودان وحتى ما قبل وظهور البترول.
    سيعلم الغرب فداحة الخطأ الذي إرتكبة، لقد كان بإمكانهم أن يجعلوا من الجنوب فرملة تجر السودان للخلف حتى تقوم الساعة، بهذا الإنفصال أصبح السودان حراً لمواجهة مشاكلة الإخرى.
    الحقيقة أن فصل الجنوب كان فصلاً لمشاكل السودان المعروفة، وصار شاهد عيان لما ستؤل إليه أحوال الإنفصاليين الآخرين فقلت النبرات العنصرية الآن بفضل العبرة الربانية الناشئة عن أحوال الجنوب الحالية.
    “إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر”