سقف التوقّعات وأجنحة “إيكاروس” الشمعيّة.. من ذا لا يهيئ نفسه لمفاجأة ؟
الكأس تطوف وتبلّل ثياب الجميع، والجميع يمنّي نفسه برشفة منه، وأن تتحقّق أمانيه.. الكل ينتظر ليلة القدر، ويفتح ذراعيه على أقصى ما يكون، ناشداً الأمنيات الممكنة منها والمستحيلة.. لا سقف للأحلام.. كل في حيّز وجوده المعتاد يتطلّع، في انتظار قرار مصيري أشبه بالصعود نحو الشمس؛ الشعبيّون يحتفون بعودة صحيفة (رأي الشعب) إلى أرفف المكتبات، كأولى شارات المفاجأة.. ثلة من (السائحون) آثروا العودة إلى أحضان المؤتمر الوطني، بعد أن طال بهم الزمن في فيافي القطيعة.. ثمة مرغوب عصيّ المنال يتجدد.
* الأسطورة الماثلة
ما تلا حفيف الانتظار بدا وكأنّه تجسيد أمثل لأسطورة (دايدالوس).. والحال كذلك إذا ما فجعت المدينة بأنّها بالغت في الأماني وشطحت بمقدار يفوق طاقة الحكومة تماماً وحماسها.. دايدالوس حسب الميثولوجيا غضب الملك مينوس عليه لسبب ما، وأمر بأن يُسجن مع ابنه إيكاروس في المتاهة التي بناها، ورغم أن دايدالوس هو الذي صمّم المتاهة إلا أنّه كان من المستحيل عليه أن يعرف طريق الخروج منها، بعد تفكير طويل صاح الرجل وجدتها وجدتها، خريطة الطريق للخروج من المتاهة تتمثّل في الطيران.. قام ابنه إيكاروس بجمع الريش المتاح في الأمكنة، ودايدالوس يعاونه بصبر وأناة في صنع أجنحة ألصق عليها الريش بوساطة الشمع.. لبرهة أصبحا مستعدين للطيران، فقال دايدالوس لولده إيكاروس: يجب أن تطير على ارتفاع معتدل.. لا تطر على ارتفاع منخفض، حتى لا تفسد الرطوبة أجنحتك، ولا تطر عالياً حتى لا تذيب الشمس أجنحتك.. ابق قريباً منّي لتكون بأمان.. وأخيراً وبوجه تبلله الدموع ويدان ترتعشان قبل ابنه لآخر مرة، ثم طار وخرجا من المتاهة، وحين شاهدهما أحد الرعاة، ذُهل وظن أنّهما من الآلهة لأنّهما يطيران، بدأ الحماس يدخل في نفس إيكاروس حين وجد نفسه يطير فعلاً، فنسي نصيحة والده، وطار عالياً محلّقاً بفعل الحماسة فأذابت الشمس أجنحته الشمعيّة، قبل أن يهوي نحو البحر ويغرق.
* بيريسترويكا سودانية
على مقربة من ذلك تبدو أجنحة الشمع حتى الآن هي الترنيمة التي يستشف بها الناس، كلّ الناس، المفاجأة التي تكمن وراء الأفق غير المنظور.. ثمّة ما يضجّ في الدواخل، يكاد يتمنّع على أهل البلاد ذات المساحة الأسطورية.. تشهر كل فئات الشعب أمنياتها وحتى مظلماتها ليأخذ بها الرئيس؛ قطار الأماني ينشد ما هو أبعد من بيريسترويكا غورباتشيف، لينهض مشروع إصلاح لحمته وسداه (غلاسنوست) الدبّ الروسي ذاته، والشفافية التي أودت بالاتحاد السوفييتي وتفكّكه.. شارة الأمل أنّ الناس زهدوا في المؤتمر الوطني وباتوا يحلمون بأن تذروه الرياح، بعض بذرة الميثولوجيا الإغريقية هي الآمال التي أشهرها الناس، وطاروا بها بين يدي فوح من عطور الأخبار السعيدة، بذات أجنحة الشمع، فإذا ما كان متن جبل الجليد مغايراً لرأسه سقط الجمع في لجّة الإحباط!
* آلام وآمال
ومع ذلك ذلك لم تتخطّ أجنحة الأحلام، رغم الكوابح المزروعة بكثافة، فالرئيس الذي استقبل جيمي كارتر بالزي العسكري والنياشين تشعّ من كتفيه بدا وكأنّه يزجي أكثر من رسالة، فما يتردّد على نطاق واسع، أنّ الأمر برمته سيؤول للقوات المسلحة صاحبة الجلد والرأس في المشروع الوطني، لا سيّما وأنّها خطّ الدفاع الأخير.. في مكان آخر يبدو أقرب لطرح الرئيس نفسه من خلال خطاباته الجماهيرية السابقة تنهض حزمة إصلاحات جديدة؛ تتضمن مصالحة وطنية، وحكومة انتقاليّة تشارك فيها كل القوى المعارضة -بما فيها الحركات المسلحة- ووصل سقف التوقعات إلى القول بأنّ الرئيس البشير سيحلّ حكومته الحالية، وربّما ترجل في نهاية الأمر، بُعيد أن يفك الارتباط بين المؤتمر الوطني والدولة، ويُعيد الأمانة للشعب الصبور.. لكن المثير في الأمر أن مطلباً آخر بدأ يتخلق، ينادي بحل الحركة الإسلامية، على اعتبار أنّها تتحمل كلّ وزر الأخطاء الكبيرة التي صاحبت الحكم.. بخلاف ذلك فإنّ الأغلبية الصامتة تمدّ أصابعها على ناحية (قفّة الملاح) وتركّز مطالبها في نقطة تخفيف الأعباء المعيشيّة.
من هنا وهناك يرتفع النداء الجماهيري باذلاً بين يدي الرئيس كل الثقة، وحاثاً إيّاه على اتخاذ الخطوة الجريئة دون تردد، وهم يشهرون تلك العبارة المتفائلة، رغم المكوث الطويل: “أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي”.
صحيفة اليوم التالي
ع.ش