متوالية صعود الفن وأدواره المجتمعية بين قوسي “العجكو” و”تيدي آفرو”
صوت شيرين يعود الأيام الماضية ليحتضن من يمثل العلم السوداني في برنامج (ذا فويس). فوز نايل السوداني واستمراره في البرنامج عرض صورة أخرى لشيرين الفنانة في المخيلة السودانية.. التحولات نفسها قد تضعك أمام صورة أخرى تتعلق هذه المرة بتعاطي المشروع الحضاري مع الغناء وبقية المحمول الثقافي بصورة تخالف تلك التي كانت سائدة في بداية التسعينيات.
ثمة من ينتظر التحول الكامل وهو ينظر لبلاد بين عهدين مضى الأول ودخل الثاني محمولاً هذه المرة على وثيقة جديدة للتعاطي مع المشهد، هي وثيقة الحوار الوطني الشامل الذي لا يستثني أحدا وتدخل بين ثناياه كل الجهات، هو الحوار الذي تحاول من خلاله الإنقاذ الخروج من جلبابها الأول متوشحة نظرة جديدة في التعاطي مع المشهد الفني والغنائي والثقافي، والمدخل لا يهمل بالطبع العبارة التي قالها رئيس الجمهورية المشير عمر البشير ذات مرة: (كل الفنانين ولاعبو الكرة مؤتمر وطني)، وهو ديدن في التعاطي مع الفن لم يتوقف عندها وحدها، بل امتد وأضاف إليه مشهد الوشاح الموضوع على صدر (محمد الأمين)، ما يعني بوجود نسخة إنقاذية تعول على الغناء، ولسان حالها مع الوشاح يقول: (درب الفنون معاك أخضر).. اللون الجديد بإشاراته الإيجابية، وكأنها تمثل تجاوزاً لبعض المواقف التي تعاطت بها النسخ المختلفة من الحركة الإسلامية في أزمان سابقة مع الغناء.
شريط الذاكرة لن يهمل رقصة (العجكو) بمسرح جامعة الخرطوم في العام 1968 وما فعله طلاب الاتجاه الإسلامي لإيقافها وإلغاء الحفل في ذلك التاريخ، ليعاد السيناريو في مشهد ما بعد الصعود والسياسات التي اتبعها في فترته الأولى في مؤسسات الإعلام وفي التلفزيون على وجه التحديد، حيث سادت سياسات جديدة قادت لمواجهة بين وزير الثقافة آنذاك ذو الخلفية الماركسية ومديره بتوجهاته الإسلامية، رغم انتصار الوجه الأصولي في البدايات سرعان ما عادت الأمور وحدث بعض الانفراج باتجاهه الواحد وبفناني الثورة في بواكير عهدها الذين انزووا لاحقاً وكأنهم يتلبسون عبارة وردي بأن الغناء للشعب هو الباقي وما دونه يفنى ولا يستحدث.
يقول فقهاء السياسة ومفكروها إن ضمان الاستمرارية لأي سلطة وقدرتها في إدارة شؤون المجتمع يتعلق بمدى قدرتها على التعايش مع مطلوبات المجتمع نفسه؛ فالناظر لعلاقة السودانيين وتركيبتهم يجد أن الغناء والاهتمام بالفنانين واحدة من مكونات الشخصية نفسها، وهو أمر ربما بدا واضحاً في بواكير الإنقاذ حين حملت الطائرة جثمان الراحل مصطفى سيد أحمد في العام 1996 والاستقبال الذي وجده من السودانيين، الاستقبال الحافل الذي وجده الفنان الراحل محمد عثمان وردي عقب عودته للبلاد، نمو كيان كامل يطلق على نفسه لقب (الحواتة) في إشارة لعشاق الفنان الراحل محمود عبد العزيز، لدرجة ان السؤال الرئيس المتعلق بحراك القوى السياسية هو: من يستطيع أن يفوز بدعم جمهور الحواتة؟ قماشة السياسة تحركت بالفعل في حياة محمود، وحاول الكثيرون مجابدته تالاهم، ما بين المعارضين، والحركة الشعبية، وصولا إلى ضفة الحكومة التي وضعت بصمتها على مشهد الرحيل من خلال الطائرة التي حملت جثمانه إلى الخرطوم، ومن ثم القول الأخير المنسوب لوزير الثقافة الأسبق السموأل خلف الله حين إشارته للدور الوطني الكبير للحواتة في مسارات القضايا الاجتماعية.
ربما مثل رحيل الحوت بحسب كثيرين نقطة فارقة في مسارات التعاطي مع الفنانين وجماهيريتهم لارتباط ذلك بحراك المنطقة التي تتنسم ربيعها الشعبي الذي قاده الشباب في الدول المحيطة بالسودان، هذا ما يبرر به البعض الخطوات السياسية في مشاوير الفنون. لتتابع حفلات التكريم بسياراتها تلاحق كل مبدعي الرعيل الأول والثاني، وهو حراك اعتبر البعض أنه يأتي في سياق مختلف عن السياق الذي مضت فيه الخطوات الأولى لذات المشروع في انطلاقته الأولى وهو ما يعني أن ثمة تحولا كبيرا يضرب جنباته الآن.
في مؤتمر إعلان حزبه (الإصلاح الآن) دشن غازي العتباني انطلاقته بـ(عازة في هواك) مما مثل نقطة أخرى للتحول في عموميات المشهد الإسلامي، إذا استثينا القوى السياسية الأخرى باعتبار أن موقفها مع الغناء والفن إيجابي في مقابل الموقف المتشدد لأصحاب المشروع الحضاري.
ربما لم تكن صدفة أن يأتي الحديث المتعلق بانتهاء عهد (التمكين) متزامناً والرؤية الجديدة للتعاطي مع الفنون في نسخة الدعوة للحوار الشامل في إطار عموميات المشهد الاجتماعي.
السودانيون كلهم متسمرون أمام شاشات التلفاز ينتظرون ما تؤول اليه النتيجة وهم يتسمرون أمام الفضائيات في انتظار فوز ممثلهم نايل، وهو الذي يمضي قدماً في المشوار من حلقة إلى أخرى.. الصورة لا يمكنك فصلها بأي حال من الأحوال عن مشاهد الخرطوم التي رقصت على أنغام الإثيوبي تيدي آفرو خلال ثلاثة أيام وتابعت صحفها كل خطواته في المدينة التي كانت تحاول قبلاً توطيد علاقتها مع أمريكا عبر حراك الفنون والحفلات الراقصة التي استضافتها قاعة الصداقة، ذات القاعة التي استضافت المؤتمرات الحكومية الرافضة لمثل هذا النوع من الأنشطة والتي تجاور مسجد الشهيد بخلفيته معروفة الانتماء.
في المقابل تبدو نبرة صوت (دفع الله حسب الرسول) أقل خفوتاً لصالح الأصوات الجديدة التي تحاول أن تعيد الأمور إلى نصابها وفقاً لما يرى المجتمع أو تفسر الخاتمة بانتصار صوت الثقافة بحسب حراك الميديا الاجتماعية في معركة الفنون وهي توجه ضربتها القاضية راسمة المشهد الجديد لقضية يبقى حسمها رهينا بما يريده المجتمع
صحيفة اليوم التالي
[/JUSTIFY]