الدلالات اللفظية وقيمة الوطن في أغنيات مصطفى سيد أحمد
الأسترالي (روس بولتر): “صوت مصطفى سيد أحمد كالموجة التي تطوف بكل حواف الكون ثم تتكسر
مصطفى غنى لأكثر من 420 شاعراً, أولهم شقيقه المقبول وآخرهم فيصل محمد صالح
عندما عرف الإنسان شرط الاجتماع بأخيه الإنسان غرس أحدهم أول فأس على الأرض وقال: “هذه لي”, ثم امتدت بعد ذلك سنة الحيازات، لتشمل الأرض ومن عليها من الموارد والوظائف وامتيازاتها والسلطات ونفوذها, ومن هنا أصبح الناس طبقتين “غني, وفقير” فانحاز الراحل مصطفى إلى طبقة العمال الكادحين.
إن الفن الذي يروج لخدمة مصالح الناس دون تمييز أو تحيز, ويرفض الهروب من الواقع، مهما زادت مشكلاته وآلامه، هو وحده الذي يساعد الأمة على تحقيق أهدافها النبيلة، ويضئ لها طريق الكفاح والنضال من أجل الحرية، وينبهها لضرورة الخروج من ليلات الجوع, فالفنان الحقيقي هو نبض الشعب والشارع، ودليله الذي يوحد المشاعر ويرتقي بها, ويتعين عليه أن ينمي الاحساس الفطري لدى الجماهير.
بكل هذه القيم جاءت تجربة الراحل الفنان مصطفى سيد أحمد المقبول (1953م- 1996م), تلك الذكرى التي يحتفي بها محبوه بمختلف أقطار العالم، في السابع عشر من يناير من كل عام، كلٌ على طريقته الخاصة؛ (التغيير) تعكس نبض الذكرى التاسعة عشر، للراحل مصطفى سيد أحمد، من مسقط رأسه بود سلفاب مع تقديم بعض الدلالات اللفظية وقيمة الوطن في تجربته الفريدة, في الفكرة والمعنى والمضمون.
يقول عنه الشاعر هاشم صديق الذي قدم له عملاً واحداً, هو اغنية “حاجة فيك”: لم أقل إن مصطفى سيد أحمد كان صاحبي، أو أحكي قصة غزلتها من خيط خاطري، طرفة أو حجوة حزينة، لم أسر بجانب العزيز في دروب هذه المدينة، صادفته مرة أو مرتين، هاتفته مرة واحدة وكان مرهفاً، يميل صوته على مطارف النعاس، لم يقتطف سوى قصيدة وحيدة، من ورود شوك غابتي، ولكنه أضاء من فتيل زيتها خطوط قامتي، كان عطوفاً يشد أطرافه على القصائد اليتيمة، ينفخ من روحه في أوصال نعش البيوت القديمة، فيدب الطلاء في النوافذ “المكعكعة” السقيمة، يسقط من رتاج جسده العليل لطبع قبلة حارقة على شفاه المستحيل، يا سيدي إن كان هذا المغني قد مات بغتة كما تقول، لماذا ظل حاضراً يجوس في بيوتاتنا يكره الرحيل والأفول.
عندما أُحضر جثمان الراحل مصطفى سيد أحمد من “دوحة العرب” ولدى وصوله مطار الخرطوم، تبادل معجبوه اداء الأدوار بين المطار وود سلفاب مسقط رأسه في 18/19 يناير 1996م, وامتلأ فضاء المكان بالطلاب والموظفين والعمال والجنود وربات البيوت والأطفال, وتحولت كل أزقة الوطن إلى صيون عزاء, وفي بيت الأسرة بود سلفاب قال الناعي: ” أنتم ما جئتم إلى عزائنا، بل أتيتم إلينا هنا في ود سلفاب لنقوم نحن بعزائكم, وليتنا نملك المبادرة لنصل كل فرد منكم في موقعه قبل أن يحضر إلينا”, ومشهد سيارات المعزين تغزوالقرية، البصات واللواري وهي تحمل لافتات الدمازين, المناقل, بارا, السوكي, كنانة, تندلتي, أم روابه, ورهيد البردي, ومهما تعددت الأوصاف لم يختلف الرواة في وصف المغني الإنسان، مصطفى سيد أحمد، وقد تساءل الجميع بعد رحيله مع أزهري محمد على:
لمتين متيمم شطر النيل
متوقي اليابسة ووارد
متوكي الغنية عصا موسى
بتهش في غيم الالفة الشارد
فالكلمات التي اختارها مصطفى سيد أحمد, أصبحت وصفة طبية ملامسة لمشاعر الناس, وقد أثارت تجربته الفنيه جدلاً في الفكر والثقافة، وظل الموت فلسفة ثرة، وزاخة بالتضحيات في أعماله كما في نهايات “عم عبد الرحيم, عمنا الحاج ود عجبنا”, مثالا يحتذى في التضحية من أجل القيم والمبادئ:
بس عشا الضيف يا جماعة
ضيفي نازل ليهو ساعة
شاكلوهو ونهروهو ودفروهو
وأمسي بايت في الحراسة
وها هي “السرة بت عوض الكريم”, على لسان الشاعر الفذ محمد الحسن سالم حميد, تجسد قيمة المرأة السودانية الأصيلة التي تتمسك بقيمها النبيلة، رقم الفقر وضيق اليد:
ضايرت التراب
كسر العويش الفوقو
شالت باصبعا
وشختت.. شخيت
الله يا رب.. كربك كرب
رغم هذه الحيرة لم تيأس السرة بت عوض الكريم:
الله يا رب العالمين
الما جحدنا نعمتو
في الشوف والسمع
راحة الولاد
لا قلوبنا عمن
ولا غيرنا دين
فالسرة بت عوض الكريم كانت خير مثال، لامرأة تزرع وترعى وهي تخط أعظم السير في الاخلاص والتفاني.
مرة بت قبايل
قالوا.. لا
واختاروا في الحق الجحيم
ومن رفقة الفسل الخلا
مرة من صميم ضهر الغلابة
الما بتنكس راسا
غير ساعة الصلاة
أو ترمي تيراب في التراب
يقول الفنان مصطفى سيد أحمد في إحدى مقابلاته الصحفية: ” منذ وقت مبكر أدركت دور الفنان عبر التأريخ, وأنا مثل غيري خرجت من صلب شعبي، غير إني رأيت في الأغنية شيئاً مبتذلاً، إذا لم تحمل هموم هذا الشعب وتطلعاته وأمانيه، ومنذ البداية وضعت نفسي تلميذاً في مدرسة شعبي العزيز”, ومن ود سلفاب تقول شقيقته بخيتة سيد أحمد المقبول، كان الراحل مصطفى سيد أحمد يقضي حياته اليومية في فرح وحبور، وكأنه يستعد لاستقبال عيد ويلاطف الأطفال, ويعاود الكبار من سكان القرية, أما ابن اخته محمد إبراهيم خريج التربية جامعة جوبا، وكلية الموسيقى والدراما جامعة السودان, فهو الآخر يقول: “إن خالي مصطفى سيد أحمد كان حريصاً على مخارج الحروف بدقة في أدائه الغنائي، وكان عطوفاً بنا جميعاً في الأسرة خاصة الأطفال.
كما قال عنه الفرنسي (رولان بيرث): ” إن مصطفى سيد أحمد مبدع يلازم المكان بالواقع” كما وصف الموسيقار الأسترالي (روس بولتر): “صوت مصطفى سيد أحمد كالموجة التي تطوف بكل حواف الكون ثم تتكسر إلى ما نهاية, مؤكداً أنه يغني من القلب إلى القلب.
فقد ظل مصطفى سيد أحمد رحيماً، يسيطر عليه الألم إن لم يرسل لقمة إلى جائع أو يرمي حبة عيش للطيور, غني لأكثر من 420 شاعراً, أولهم شقيقه المقبول, وصلاح حاج سعيد, وآخرهم فيصل محمد صالح صاحب أغنية “سِفْر السكوت”, وكانت أعمالهم بطاقات هوية لهذا الوطن، الذي كان مصطفى يحلم به مستقبلاً آمناً مستقراً، لكنه رحل قبل أن يرى أجزاءه تتقطع إلى أشلاء أولها انفصال الجنوب، ولسان الحال يردد مع صاحب “البت الحديقة” خطاب حسن أحمد:
فجرتي فيني خطوط التماس
أحدثت فيني حريقاً بليغ
شردتي فيني بيوتاً وناس
الفوضى عمت
الناقصة تمت
ودق النحاس.
إعداد: محمد احمد الدويخ
صحيفة التغيير
ت.أ
اقدر مجهود اسرة الموقع في بحثهم عن المفيد دوما وأتشرف أن ينشر مقالي المتواضع عن الفنان الانسان الراحل المقيم مصطفى سيداحمد ..نحن في حاجة لإكتشاف مشروع هذه المبدع الشامل في انسانيته وخلقه ومعايشته للآخرين واسعادهم وهو يتألم ..وكأنهم يطلبونه المزيد بلسان رفيقه مدني النخلي :
اديني احساس بالامل ..مع كل لحظة شوق تمر ..