إدريس جماع.. عبقري تجاوز زمانه بالشعر 3 لحظات باقية
كقاعدة شائعة، يُقال إن المبدع يشعر بالتصالح مع ذاته غالباً، لكن الحقيقة أن قاعدة التصالح مع الذات لا تنطبق على الشاعر الفذ إدريس جماع، فهو يدخل زمرة مبدعين قلة اختطوا طريقهم دون أدنى التفاتة لما هو معلوم بالضرورة. فـ (جماع) لم يتصالح مع نفسه ولم يكرهها بالمعنى المعروف للكراهية، ولم (يُنرجسُها) ويدخلها برجا عاجيا، إنما مشى بين الناس متحسسا أوجاعهم وآلامهم مازجا إياها بما يعتمل في نفسه من حب وألم مضنٍ تاق للتحرر منه، فأقعده جسده وحَدهُ عن التحليق والانطلاق في الفضاءات الواسعة، فسكبه بيراعه شعرا تفرد به على السابقين واللاحقين نضارة وروعة وغنائية.
# وريث العرش
نهض الشاعر إدريس جماع عن طوقه يرفل في دثار العبقرية والكبرياء التي استمدها من إرث قديم وتاريخ ضارب في الأمجاد، فهو ملك لا شك.. ورغم أن التاريخ غير مجراه لكن لا زالت جذوة الملوك تُومض في دواخله الشفافة وتغذي عبقريته الشعرية المتفردة، ولو أجرينا مقارنة بينه وبعض الشعراء نجد البُون بينه وبينهم شاسعاً، فمهما أكثر الآخرين من كتابة الشعر واختلف الناس واتفقوا حولهم نلحظُ أن شعرهم لا يجرى على ألسن كثيرة ولا يُحتفى به في الملمات ولا يجري مجرى الأمثال، وهذا لا ينطبق على إدريس جماع الذي على قلة ما كتب يكاد الناس يحفظون جل ما خطه يراعه لا لشيء إلا لوضوح معانيه ودقة وصفه وحلاوة وطلاوة جرسه واستقامة عمود شعره ولتطابقه مع الواقع. وتأكيدا لما ورد ترددت أشعار جماع في الآفاق حتى تلك التي لم يضمها ديوانه المطبوع المسمى (لحظات باقية) خرجت عن حدود القطر السودان ودارت حولها أقاويل وأحاديث شتى بعضها غير مؤكدة، ولكن أصبح نفيها أو تأكيدها عسيرا لشدة ما كثُر تداولها ومنها أبياته التي يصف فيها حظه:
ﺇﻥ حظي كدقيق فوق شوك نثروه.. ثم قالوا لحفاة يوم ريح أجمعوه
عظم الأمر عليهم ثم قالوا أتركوه.. إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه
# الشاعر الرياضي
لو جاز أن الشعر يمكن أن يُقاس بمنطق الرياضيات لكان بعض شعر إدريس جماع أول من تطبق عليها قوانين الرياضيات، فهو على جزالته وروعته وحسن نظمه يكاد المرء يضع يده على نهايته من بدايته، ولكن لن يستطيع عقل كشف غور ما يكتبه جماع مهما تفتح، فأسمعه وهو يافع بمرحلة تعليمه الابتدائي:
إن تريدي كتم سر فاغمضي عينيك عني
إنما عينيك بلور يشع الصفو فيه
عادة البلور أن يسفر عن ما يحتويه
أليس مثل هذا الشعر من يجعل اللسان يخرس عن الحديث وتشرد بواعث الوصف عن العقل، فأي منطق رياضي يطبقه في الأبيات أعلاه غير أن قانون الطبيعة يثبت وقائع القول بالبرهان والدليل؟!
وجماع دائما ومنذ نشأته الأولى درج على أن يعبر بما هو متداول من ألفاظ ولا يسعى نحو الزخرفة اللفظية، ولا يبحر في صياغة ألفاظ حوشية، ولا يعتمد في أسلوبه على اللغة المجازية، حيث يكتب أيضا، وهو طفل:
برز الهلال متوجا بالأنجم كالماس بظاهر معصم
هل أنت حسناء جرى بعروقها ماء الوسامة والوضاءة كالدمي
أم أنت مخلوق وما لخيالنا إدراكه يا إبن السماء تكلم
نرتكب ظلما فادحا إذا لم نضع من يكتب بمثل هذا الصفاء والجمال على قمة الشعراء في العصر الحديث، فهو وحده من بينهم من يستطيع أن يمزج الخيال بالواقع لحد التجاوز المطلق ويرسم صورة معبرة بالكامل عن الحقيقة.
# عبقرية متجاوزة
وحين نتمعن في سعر جماع نخرج منه بما هو فوق التصور والعقل ليس في معانيه الجزلة فحسب، بل في الموضع وقربه من المتلقي، فحين يكتب:
ﺃﻋلى ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﺗﻐﺎﺭ ﻣِﻨّﺎ.. ماذا ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺇﺫ نظرنا
هى نظرة تنسي الوقار.. وتسعد الروح المعنى
ﺩﻧﻴﺎﻱ ﺃﻧﺕِ ﻭﻓﺮﺣﺘﻲ.. ﻭﻣُﻧَﻰ ﺍﻟﻔﺆﺍﺩِ ﺇﺫﺍ ﺗَﻤﻧَّﻰ
أنت السماء بدت ﻟﻨﺎ.. ﻭاستعصمت بالبعد عنا
نعلم أنه طبع كلماته بميسم ذاتي وارتقى بها علياً لن يبلغه غيره خاصة عندما يضيف:
السيف في غمده لا تخشى بواتره.. وسيف عينيك ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﻟﻴﻦ ﺑﺘّﺎﺭُ
يبقى القول إن جماعا يعد من شعراء قلائل تميزوا بعبقرية متجاوزة لزمانهم وأوانهم، فهو الذي نالت قصائده احتفاء نادرا لدى كل الأجيال، ولا يزال يمثل أيقونة شعر الحكمة والحب والجمال والطبيعة
اليوم التالي
الخرطوم – محمد عبد الباقي