منوعات

هل اكتشف الجاحظ وابن خلدون نظرية التطوّر قبل دارون؟

في وقتٍ كانت فيه الولايات المتحدة لم تكتشف بعد، وكانت أوكسفورد وكامبريدج مناطق منعزلة يغمرها الجهل، كانت أزهى العقول البشرية تلمع في مدنٍ مثل القاهرة وتونس وبغداد.

خلال الخلافة العباسية طوال القرن الـ 8 وحتى منتصف القرن الـ 11 وعلى فترات متقطعة بعد ذلك، كان التسامح مع الديانات والأقليات غير المسلمة راسخاً في القانون بحسب موضوع نشرته النسخة الأميركية لـ “هافينغتون بوست”.

ربما لا يشبه حال الحريات الدينية (وغير الدينية) التي يتمتع بها المجتمع الغربي اليوم، إلا أن ذلك كان يعني أن غير المسلمين من أمثال موسى بن ميمون (المعروف لدى الغرب بميمونيدس)، وحنين بن اسحاق، ويوحنا بن بختيشوع، لم يتمكنوا من ممارسة شعائر دياناتهم المسيحية واليهودية فحسب، بل تمكنوا من تقديم مساهمات راسخة في الحياة الاجتماعية والفكرية في ظل هيمنة الثقافة الإسلامية في ذلك الوقت.

ربما ليس من قبيل المصادفة أن الكثير من جوانب فهمنا للعالم ترجع جذورها إلى تلك الحقبة الزمنية، فالعلماء العرب والفرس (من المسلمين وغير المسلمين) لم يترجموا فقط ما كتبه الإغريق، بل قدموا إسهامات جديدة في الرياضيات والطب والعلوم الاجتماعية وغيرها من الموضوعات.

ففي علم الأحياء، واحدةٌ من أكثر الادعاءات المثيرة التي تظهر من فترة لأخرى، هي أن نظرية التطور البيولوجي قُدِمت في صورتها الكاملة في القرن الـ 9 على يد العالم المسلم الشهير الجاحظ، وهو ما ذكره عنه عالم الدين التركي محمد بيرقدار في العام 1983 في مجلة إسلامية تصدر في لندن، إلا أن السؤال القائم هو: هل قد الجاحظ النظرية في صورتها الكاملة؟

ليس تماماً؛ هناك بالفعل بعض الاقتباسات التي تستحضر الأفكار المتطورية للعلماء العرب في العصور الوسطى، أشار العالم الإنكليزي الشهير جون ويليام دريبر إلى ما أسماه بـ “نظرية التطور المحمدية” في كتابه في العام 1874 بعنوان “تاريخ الصراع بين الدين والعلم”، إذ كان يشير على الأغلب العالم العربي ابن خلدون الذي صاحب كتاب المقدمة في القرن الـ 14.

ابن خلدون.. ومقدمته الشهيرة

يقول ابن خلدون في مقدمته، “عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش، وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف.. أي أن آخر أفق من كل مجموعة يستعد تماماً ليصبح أول أفق للمجموعة التالية”.

وحتى قبل ابن خلدون بـ 500 عاماً، تناول الجاحظ بوضوح فكرة الانتقاء البيولوجي في كتابه بعنوان “كتاب الحيوان”.

في العام 1930، ترجم الباحث الإسباني ميغيل آسين بلاسيوس هذه الفقرة عن الجاحظ، والتي قال فيها:

“باختصار لا يمكن لأي حيوان أن يبقى دون غذاء، كما لا يمكن للحيوان المفترس أن ينجو من أن يُفترس هو بدوره أيضاً، أي أن الله جعل من بعض المخلوقات سبباً في حياة مخلوقات أخرى، وبدورها، تصبح تلك المخلوقات سبباً في موت المخلوقات الأولى”.

هذه الملاحظات التي تشير إلى استمرارية الوجود عبر صور مختلفة من الحياة التي تناولها ابن خلدون، والتي تشير إلى صراع الوجود بين الكائنات والتي تناولها الجاحظ، هي في الواقع على صلة بنظرية التطور المعاصرة. ومع ذلك، تظل بعيدة كل البعد عن “التطور البيولوجي في صورته الكاملة”.

أولاً، لم يكن هدف الجاحظ من كتابه “كتاب الحيوان” – بحسب المؤرخ الألماني هربرت آيزنشتاين – دراسة الأنواع الحيوانية، بل إثبات وجود الخلق استنتاجاً من وجود مخلوقاته.

وعلاوة على ذلك، كان الجاحظ فيلسوفاً ورجل دين نابغاً، وكان له اهتمام جانبي بعلم الأحياء، وليس العكس. يرى الجاحظ أن إرادة الله وحكمته في الخلق هي السبب في أن الحيوانات خُلِقت ببعض الأجزاء – كالمخالب والأنياب والعمود الفقري – لتهاجم غيرها وتدافع عن نفسها. ووفقاً لآيزنشتاين، فقد كتب الجاحظ في تكملة الفقرة المذكورة أعلاه:

“إذا رأيت شيئاً من الحيوان.. مما يشتد ضرره، وتشتد الحراسة منه، كذوات الأنياب من الحيات والذئاب وذوات المخالب من الأسد والنمور، وذوات الإبر والشعر من العقارب والدبر، فاعلم أن مواقع منافعها من جهة الامتحان، والبلوى، ومن جهة ما أعد الله عز وجل للصابرين، ولمن فهم عنه، ولمن علم أن الاختيار والاختبار لا يكونان والدنيا كلها شر صرف أو خير محض”.

تظل هذه أحد أبرز جوانب النهج الديني المعاصر تجاه الثيوديسيا – حل معضلة الشر -، إلا أن النقطة الهامة هنا هي أن الجاحظ كان أقل اهتماماً بالآليات الطبيعية -التي تنوعت أشكال الحياة من خلالها عبر الزمن – من اهتمامه بفهم الطبيعة في سياق الفلسفة الإلهية.

من ضمن الفوارق أيضاً بين علم الأحياء المعاصر وبين الفلسفة الطبيعية للعرب والفرس في عصورهم الذهبية هو حقيقة الأنواع. فكرة وجود مجموعة من الحيوانات الهجينة تتميز عن غيرها من المجموعات المماثلة ليست واضحة في الأدب العربي في تلك الفترة.

كان الجاحظ مفتوناً بالتهجين والتكيف، وفكر في كيف كانت العوامل البيئية لتؤثر عبر أجيال من البشر والحيوانات. وطبقاً لترجمة ألمانية أخرى لأحد قطع الجاحظ، فقد كتب أنه من المحتمل أن يكون الأنقليس قد نشأ من تهجين الثعابين مع الأسماك. ربما يختلف من عاشوا في المناطق الغربية من الخلافة الإسلامية – ما يعرف اليوم بالمغرب والجزائر – من حيث الشكل عن العرب بسبب الاختلافات في الغذاء والبيئة.

كانت هذه من بين نوعية المناقشات التي يمكن أن تجدها في وفرة من كتب الجاحظ، وابن قتيبة، وغيرها ممن عاشوا في هذا العصر. السؤال، هل كانوا أكثر إدراكاً وفهماً للطبيعة من الأوروبيين في الـ 19؟ الإجابة هي نعم، أما إذا كان السؤال هو هل اكتشف العرب التطور البيولوجي في القرن الـ 9؟ فالإجابة هي لا.

وكما لخص عالم الفيزياء البريطاني – العراقي البروفيسور جيم الخليلي، في كتابه بعنوان “الرواد” (وتناقله كتاب آخرون مثل جيمس مونتغومري وريبيكا ستوت)، فقد تكلم الجاحظ بوضوح عما يمكن وصفه بمزيج من اللاهوت الطبيعي، والتطور اللاماركي (مذهب لامارك في التطور)، والذي فيه يمكن أن تؤثر السلوكيات والعوامل البيئية التي يعيش فيها حيوان ما بشكل مباشر على ذريته.

كان هذا أكثر من مجرد نقل عن أرسطو، إذ إن الأوروبيين لم يصلوا لتلك المرحلة سوى بعد قرون لاحقة. ومع ذلك، على الرغم من أن الخلافة العباسية لعبة دوراً رئيسياً في دعم ودفع العقل البشري، فلم يكتشف من عاشوا فيها أو في أي مكان آخر في العصور الوسطى المبادئ الأساسية لعلم الأحياء التطوري المعاصر.

النظرية المؤكدة حول الآليات التي كانت وراء التنوع البيولوجي تقول بأنه – وبشكل عام -، فإن ما يفعله حيوان ما على مدار فترة بقائه (كأن يمد رقبته للوصول إلى الأوراق في الأشجار العالية، وغيرها من الأمثلة) لا يؤثر بشكل مباشر على سلالته.

ربما يساهم ذلك بطريقة ما، لكن جوهر التطور يكمن في التنوع، والتوريث، والانتقاء. علم الأحياء التطوري ليس عبارة عن منظور ثابت، وفي السنوات القادمة سيكون هناك الكثير من الاكتشافات التي تحدث ثورة في فهمنا للآلية التي تقف وراء التنوع البيولوجي.

أحد تلك الاكتشافات الحديثة يقول بأن القوانين الفيزيائية التي يقوم عليها نمو الخلية ربما يكون لها تأثيرٌ أقوى على بعض جوانب التشريح أكثر من عملية الاصطفاء، بحسب ما أظهرته دراسة في العام 2013 ركزت على تطور التماسيح. هذا الاكتشاف، والكثير من الاكتشافات الأخرى على مدار الـ 150 عاماً الأخيرة، تسهم في تحسين فهمنا للتطور.

يحرص أتباع الديانات السماوية في يومنا هذا في بعض الأحيان على أن يروا في ثقافتهم التاريخية وكتبهم المقدسة علامات مبكرة لما توصلت الاكتشافات العلمية الحديثة. وعلى الرغم من ذلك، فالرسالة الحقيقية بالنسبة للكاتب من العصور الذهبية في الشرق الأوسط ليست إسهاماتها في العلم الحديث – وهي إسهامات كثيرة بالفعل -، لكن هي حقيقة أن بعض حكامها كانوا يقدرون الأفكار والأيديولوجيات المختلفة، يجب أن يُعطى العلماء الموارد التي يحتاجونها للدراسة والكتابة، وسيتواصل التقدم العلمي والمدني – وقد حدث بالفعل – في القرن الحالي، تماماً كما حدث في القرن الـ 9.

هافغنتون بوست