سياسية

مواطنة: نفتقد أبسط مقومات الحياة

جريمة قتل تقود “الصيحة” إلى أغرب حي بالخرطوم “كمبو شطة” بسوبا.. “العيش” على هامش الحياة
شرطي المرور يطالبني بتوخي الحيطة والحذر
عربة الشرطة تصيب بائعة الخمر بالذعر
حتى أتمكن من التجول بحرية داخل كمبو شطة كان لزامًا على أن أحمل معي عددا من قوارير المشروبات الغازية البلاستيكية الفارغة التي تكشف هوية من يحملها، فهي تشير مباشرة إلى أنه يريد شراء خمور بلدية وتحديداً “العرقي”، وهو مشروب يصنع من البلح ويتسبب في إفقاد من يتعاطاه الوعي وعدم التمييز.. حسناً كانت القوارير جواز مروري لأن النظرات لم تطاردني حينما دلفت إلى الحي وهو كمبو ستة الواقع جنوب الخرطوم وتحديداً بسوبا.
جريمة قتل
لماذا كمبو ستة أو كمبو شطة كما يطلق عليه.. السبب يعود إلى أنه اسمه بدا لي غريباً وأنا داخل ردهات محكمة جنايات الأزهري حيث دائرة اختصاصي التي علي أن أتردد عليها يومياً للحصول على أخبار الجريمة، وفي إحدى جلسات المحكمة تردد اسم كمبو شطة والسبب يعود إلى نظر المحكمة جريمة قتل راح ضحيتها أحد الشباب، ويومها أشارت شاهدة الاتهام الى أن سبب الجريمة يعود إلى نشوب خلاف على قارورة خمر وأن الجريمة وقعت في منطقة الأمبانة بالكمبو.
وقالت شاهدة الاتهام أمام القاضي إن الخمور البلدية تباع “على عينك يا تاجر في الشوارع”، وما جهرت به المرأة كان سبباً في تحفيزي لزيارة هذا الحي الذي تباع فيه الخمور على قارعة الطريق، فقد كنت أريد الاستيثاق من هذا القول بالإضافة إلى الاقتراب من هذا العالم والتعرف على خباياه.
مغامرة وحقائق
عندما فكرت في زيارة الكمبو سألت عن موقعه، وحينما قررت التوجه نحوه تحركت باكراً من مسكني بالكلاكلة، وحينما وصلت الى جامعة إفريقيا العالمية جنوب الخرطوم لم أعرف أي المواصلات أستقلها للوصول إلى الكمبو فلم أجد أمامي غير التوجه نحو رجل مرور كان ينظم حركة السير أمام الجامعة، ولم يخذلني الشاب المتدثر بالرداء العسكري الأبيض فبعد أن حدد لي المواصلات، سألته عن الحي بدعوى أنني أتوجه إليه للمرة الأولى فطالبني بتوخي الحذر وأخذ الحيطة وذلك لأنه يعج بالمخمورين، وأشار إلى أن كل من يذهب إلى هذا الحي فإن حياته ستكون على المحك وربما يفقدها لجهة الخطورة التي تظلل سماء الحي العشوائي.
ازداد فضولي وتحفزي رغم شعوري ببعض الخوف، بعد تردد قررت مواصلة رحلتي، وتوكلت على الله، وقبل تحركي أجريت اتصالاً هاتفياً برئيس قسم التحقيقات بالصحيفة فأخبرته بالتفاصيل فطالبني بالعودة على أن يذهب معي أحد الصحفيين الشباب في اليوم الثاني لتوفير الحماية لي، إلا أنني كنت أكثر إصرارا على التوجه نحو الكمبو، وبالفعل استقللت وسيلة مواصلات تحركت بنا من جامعة افريقيا واتجهت جنوباً بمحازاة المقر الدائم للمعسكرات بسوبا، وبعد مسافة قصيرة انحرفت نحو الجنوب الشرقي وسارت السيارة في طريق ترابي كنا نشعر بوعورته ونحن داخل العربة، وبعد مسافة ليست بالطويلة لاحت لنا من على البعد منازل مشيدة من المواد المحلية مثل القش والجوالات وجريد النخيل تجاورها زرائب للماشية، وحينما توقفت العربة سألت السائق عن الكمبو فطالبني بالذهاب الى حيث تقف الركشات لتقلني إلى داخل الكمبو، وقال إن المسافة إليه لا تتجاوز الكيلو متر الواحد، وبالفعل ذهبت إلى شاب يجلس وراء مقود ركشة، فقلت له أريد الذهاب إلى كمبو شطة فجاءت إجابته ضاحكة، حينما قال إن اسمه كمبو ستة وليس كمبو شطة، وقال إن سبب إطلاق اسم كبو شطة عليه يعود إلى بيع الخمور من قبل بعض من قاطنيه وإن الشطة من المتلازمات للخمر بالإضافة إلى أن الخور الذي تباع في الحي حارقة وحادقة مثل الشطة، سألني عن سبب زيارتي فلم أتمكن من الإجابة سريعاً وساعتها خبأت القوارير إلا أنه يبدو قد وقع بصره عليها، فقال لي هل تريدين الذهاب الى الشيخ الذي يعالج المصابين بالسحر، قلت له أريد شراء بعض المستلزمات من داخل الحي، وبعدها حدد لي تكلفة المشوار فطلبت منه التحرك.
في مواجهة المساجين
بعد مشوار لم يستغرق زمنه الخمس عشرة دقيقة توقفت الركشة جوار سجن سوبا، وقبل أن أترجل منها شاهدت أعداداً ضخمة من الرجال يقتربون مني فساروتني الشكوك والمخاوف، فعدت مرة أخرى الى الركشة التي ولحسن الحظ لم تتحرك وقتها، ولكن بعد فترة قصيرة مضى ركب الرجال وكنت في حيرة من أمري غير أنني وبعد أن ترجلت من الركشة داخل سوق متواضل بددت امرأة تبيع خضروات يحيط بها الذباب حيرتي وأذهبت مخاوفي حينما سألتها عن الرجال، فأشارت إلى أنهم مساجين عائدون من العمل في المزارع إلى سجن سوبا وأنهم تحت حراسة الشرطة والكلاب البوليسية حتي لا يفكر أحدهم في الهرب، ووجدت هذه المرأة الطاعنة في السن مدخلاً جيداً لأتعرف على خبايا الكمبو.
حكايات مؤلمة
سألت السيدة عن حياتهم في كمبو ستة فحكت قائلة: الناس هنا أموات أحياء يفتقدون أبسط مقومات الحياة، لا توجد فرص عمل والحياة صعبة وتفرض على النساء العمل بجانب الرجال في الكمائن التي تقع على الضفة الغربية للنيل الأزرق حيث يعملن في بيع المشروبات البلدية مثل المديدة بالإضافة إلى العدسية وغيرها من مأكولات، وحينما سألتها عن أسباب وجود كميات كبيرة من الذباب قالت إن انتشار الخمور ومخلفاتها هي التي تقف وراء انتشار الذباب، وشكت من تفريغ مياه الصرف الصحي بالقرب من الحي، وكشفت عن أن المساكن مجانية حيث يحضر من يريد السكن في كمبو ستة ويشيد راكوبة كما توجد رواكيب للإيجار بواقع مائة جنيه في الشهر ، وفي أثناء حديثها حضر طفل قالت إنه ابنها جاء من المدرسة لتناول وجبة الفطور وطلبت مني مرافقتها إلى المنزل الذي كان عبارة عن راكوبة مهترئة مصنوعة من جريد النخيل، وتتسلل إليه الشمس من كل الاتجاهات، ونحن جلوس جاءت جارتها وسألتها عني فقالت لها إنني أريد زيارة السجن، فذهبت حال سبيلها، وشكت المرأة التي استضافتني في منزلها من انتشار الإسهالات المائية، وأكثرت المرأة من الشكوى ووضح لي جلياً أنهم مجبرون على اتخاذ هذا الحي مستقراً، وذلك لأنه يفتقد أبسط ضرورويات الحياة، حيث لا كهرباء ولا شبكة مياه ولا طرق مسفلتة ولا مركز صحي.
موظفة المنظمة
مجدداً جاءت امرأة وسألت من استضافتني عن هويتي فقالت لها إنني موظفة في منظمة حضرت للتعرف على مشاكلنا فألجتمني الدهشة من سرعة بديهتها، ولكن كان ثمن هذه الكذبة باهظًا حينما حضر عدد من النسوة طلباً للمساعدة وتسجيل أسمائهن في كشف المنظمة حتى ينلن الدعم المطلوب.. لوشيه امرأة في العقد الثالث طالبتني بتدوين اسمها وقالت إن زوجها تم القبض عليه لأنه ذهب إلى منطقة الأمبانة لتعاطي الخمور وأنه يقضي حالياً فترة العقوبة، أما فرونكا فقالت إنها تعاني من داء الأزمة وقد قابلت عددا من الاختصاصيين ولكن دون جدوى فطالبت بأن نشتري لها بخاخاً، عدد من النسوة انتهزن فرصة وجودي على أساس أنني موظفة في منظمة خيرية وبثثن شكواهن وبدا واضحاً لي أن عدداً منهن من رعايا دولة جنوب السودان .
قصة مؤلمة
وجودي مع بائعة الخضروات في راكوبتها أتاح لي التعرف على الأوضاع الإنسانية لمن يقطنون كمبو ستة، ومن أكثر القصص التي جعلت الحزن يحتل دواخلي تلك التي سردتها امرأة وهي تلحق بنا قبل مغادرتي الراكوبة حينما قالت إن ابنتها الصغيرة تعاني من عيب خلقي في جهازها التناسلي وجراء ذلك فإنها تصرخ عندما تريد التبول لضيق المجرى، وقالت إنها قابلت عددا من الاختصاصيين الذين نصحوها بالسفر خارج البلاد لعلاج ابنتها، وكشفت بنبرات حزينة: للأسف كل يوم تزداد حالتها تدهوراً ولا أملك المال الذي يتيح لي علاجها خارج السودان، وأشارت إلى أن الكثيرين يحضرون الى الكمبو ويلتقون بالسكان ويطلقون وعوداً بمساعدتهم ولكن لا يفعلون ولا يحضرون مرة أخرى.
أبيي وكمبو شطة
امرأة أخرى التقتنا في الطريق وطلبت مني الاستماع إلى قصتها حيث أشارت إلى أنها تملك من الأبناء عشرة وقد أخرجتهم جميعاً من المراحل الدراسية لعدم قدرتها على الإيفاء بالرسوم وتكلفة العملية التعليمية، وكشفت عن أنها من أبيي وأن زوجها كان يعمل عسكرياً في السجون وقد توفي، وأبدت خشيتها من أن يتم طردها من الراكوبة، واعترفت أن الكثير من النساء يمتهن صناعة الخمور البلدية لضيق حالتهن المادية .
رجل البابور المحروق
مجددًا وجدت نفسي مجبرة على التوقف للاستماع الى رجل كان يمشي ببطء حتي ظننت أنه مخمور وكان يتوشح بشال يضعه على وجهه، وقال إنه عرف بأنني أتبع لإحدى المنظمات وإنه يريد المساعدة وأشار إلى تعرضه للحرق قبل أربع سنوات حينما كان يعمل في طلمبة مياه، لافتًا إلى أنه ظل طوال هذه الفترة بلا عمل، وأنه يحتاج الى المساعدة، ورغم شكواه من حالته إلا أنه لم ينس أن يشير إلى أن المنطقة في حاجة ماسة الى تشييد مراحيض وذلك لأن المواطنين يقضون حاجتهم في العراء، استمعت إليه ثم ذهبت لحال سبيلي.
مخاطر الأمبانة
وأنا أرسل بصري إلى أنحاء متفرقة من الحي تشابهت علي المشاهد، فالمنازل مشيدة من المواد المحلية وهي عبارة عن رواكيب، أما الذباب فينتشر بكميات مزعجة ومخيفة، كما تعم المكان روائح كريهة ومنتنة، أثناء سيري وجدت فتاة تبيع قصباً وطماطم جلست بجوارها وطلبت منها ماءً للشرب حتى أتقرب منها وتطمئن لي ولكن حينما أحضرتها لم أتمكن من شربها وذلك بسبب رائحة الخمور وطعمها، مثل غيرها سردت قصتها الحزينة والمؤلمة، ويبدو أن الناس هنا في حي كمبو ستة وحي الأمبانة شركاء في الوجع، فما من أحد التقيته إلا وأخرج هواء ساخناً من دواخله ليعبر عن بؤس الحال، وقالت إن والدها اختفى ولديها شقيق مريض وقد نصحهم الأطباء بمغادرة المنطقة حتى يتعافى من مرض الحساسية، جلست مع الفتاة بعض الوقت غير أن منظر طفلة تركض بسرعة لفت انتباهي فتحركت لتقصي أمرها.
الشرطة تتحرك
كانت الطفلة تجري مسرعة وفي يدها “كيس مخدة” بداخله شيء ما ودخلت إلى راكوبة فلحقت بها وساعتها كانت تفرغ ما بداخل الكيس وكان عبارة عن قوارير بداخلها خمور، وفي أثناء وجودي بالراكوبة سمعت عربة الشرطة وهي ترسل أصواتها المألوفة فتسلل الخوف إلى داخلي خوفاً من إلقاء القبض علي داخل الراكوبة، فطلبت مني صاحبة الراكوبة الاختباء، ومرت علي اللحظات ثقيلة الى أن عبرت السيارة وتجاوزت الراكوبة التي كنت بداخلها فتنفست الصعداء، فسألتني بعد ذلك من استضافتني عن سبب زيارتي للمنطقة فقلت لها لدينا مناسبة وأريد كمية كبيرة من الخمور البلدية وإنه تم إرشادي إلى منزلها، فتبسمت في إعجاب وأكدت أن طلبي لديها، فقلت لها أريد عشرين قارورة من العرقي فاخبرتني بالأسعار التي تبدأ من الخمسة عشر جنيهاً إلى المائة جنيه، فأخذت مني القوارير التي كانت في شنطتي غير أنني قلت لها في وجود الشرطة بالخارج لا يمكنني حمل الخمور وقلت لها إن سائق ركشة سوف يحضر مساءً ومعه القروش ليأخذ القوارير فوافقت وأكدت أنها جاهزة، فتركت القوارير لديها وخرجت مسرعة بعد أن عشت لحظات عصيبة.
رزق من الخمور
فكرت أن أتوقف عن الجولة بعد أن رأيت بعيني ما يشيب له الولدان، فهنا الخمور تباع علنا، المواطنون يبدون أقرب إلى الأموات بداعي حياتهم المتردية، مرة أخرى وجدت نفسي أدلف نحو راكوبة أخرى منصوبة في منتصف الطريق، وجدت امرأة ومعها أبناؤها الذين بدا عليهم أنهم عائدون لتوهم من المدرسة ، طلبت منها ماء ، وحينما ذهبت لمحت مجموعة من القوارير موضوعة تحت سرير، وحينما هممت بفتحها جاءني صوتها قوياً وهي تطلب مني عدم لمسها فقلت لها سريعاً أريد شراء عرقي، فتغيرت لهجتها تماماً وحددت أسعارها مقرونة بابتسامة ودودة، وقالت كمن شعر بتأنيب التضمير “نعمل شنو ما لقينا مصدر رزق غير بيع الخمور “، لم أعلق على حديثها ولم أجد أمامي غير شراء قارورة بها عرقي بخمسة عشر جنيهاً ثم خرجت وألقيت بها في الطريق.
عمر جديد
بعد أن تجولت داخل كمبو ستة الذي استحق لقب كمبو الشطة لاحتضانه عددا كبيراً من المنازل أو فلنقل الرواكيب التي تبيع الخمور وبعد أن وقفت على انعدام الحياة وتردي البيئة، قررت العودة الى وسط الخرطوم وساعتها شعرت بأن عمراً جديداً كُتب لي لأن الساعات التي قضيتها في هذا الكمبو أدخلتني في تجارب مريرة، ولكنها ليست أكثر مرارة من الواقع الذي يرزح تحت وطأته مواطنون لا يحظون بأدنى حقوقهم الدستورية.

الخرطوم: مياه النيل مبارك

الصيحة