سياسية

خطاب البشير للأمة السودانية.. مشاهد ورسائل


استقبل القصر الجمهوري أمس جموعا من النخب السياسية والاجتماعية بالبلاد، من الذين وجهت لهم الدعوة لحضور خطاب رئيس الجمهورية المشير عمر البشير للأمة السودانية. قبل أن يدلي رئيس الجمهورية بخطابه كانت ثمة تسريبات بأبرز ما سيتضمنه الخطاب قد عبرت الحواجز، ووجدت طريقها لشاشات الفضائيات العربية. الرئيس البشير استهل خطابه بتشخيص سريع لأوضاع البلاد، مروراً بمراحل التطور السياسي ثم الأحداث الأخيرة وابتدر مساراً وإطاراً جامعاً للحل، وقال إنه ليس الحل بعينه لأن الحل أمر يجب أن يتشارك فيه الجميع، ثم قدم حزمة من القرارات لتهيئة أجواء البلاد لبلورة ذلك الحل.
كثيراً ما تتأخر خطابات الرئيس عمر البشير لأسباب مختلفة، غير أن الوقت في أذهان الناس تأخر لساعات وليس مجرد ساعة.
ملامح الخطاب التي كشفت عبر تنوير مدير جهاز الأمن والمخابرات مع رؤساء تحرير الصحف اليومية، لم يفسد لحظات ترقب خطاب البشير.. فالجميع داخل السودان وخارجة ينتظرون وينتظرون.
قيادات الصف الأول، الذين جلسوا في كراسٍ متجاورة وهم يبتسمون ويتهامسون، أعطوا إشارة بارزة بمساندة الرئيس البشير في قراراته المرتقبة.. بكري حسن صالح، عوض الجاز، فيصل حسن إبراهيم، إبراهيم محمود والقائمة تطول.
الأغاني الحماسية داخل القصر قبل وصول الرئيس البشير، زادت الأحاسيس بالقرارات، وأنها لن تكون حزبية وشكلية، إنما ستصبح جوهرية وأكثر لتدخل إلى عمق الأزمة.
كان الخطاب مباشراً، فلم يكن هناك مقدم للبرنامج أو مسؤول يطلب من البشير الحضور إلى المنصة.. فقد وقف تحيةً للعلم، ثم استمع إلى آيات القرآن الكريم، وذهب بعدها مباشرة إلى المنصة، ألقى خطابه وغادر.. دون أغانٍ أو موسيقى.

مشاهد من القصر
في السابعة مساء أمس، كان قادة هيئة أركان الجيش يخرجون من جوف سياراتهم العسكرية الخضراء، مصطفين في المقاعد المخصصة لهم، ووالي شمال كردفان السابق أحمد هارون بوجه طليق يحتضن أولئك القادة مصافحاً ومداعباً لهم، وإطلالة د.نافع علي نافع المبكرة لباحة القصر، ترسم على أفواه الحاضرين علامات من الاستفهام، إذ كان حضور الرجل يتزامن مع توقيت المكتب القيادي. طغى على الحضور قيادات المؤتمر الوطني بالمرتبة الثانية والوسيطة، تلف وجوههم الحيرة، وبدوا كمن يعيش حالة من دوار المباغتة والصدمة. تجاوز موعد خطاب الرئيس الموعد المضروب، وتصاعد قلق الانتظار الشغوف لمعرفة ما وراء ذلك التأخير، وبدا لبعض الحضور أن ثمة ما يجري خارج أسوار القصر، وعجز الجميع عن التقاط شارة المكتب القيادي حيث قيادات المؤتمر الوطني مجتمعة لتلقي تنوير من الرئيس. وبعد وقت طويل من الترقب والانتظار، أطل على مكان المناسبة علي عثمان محمد طه برفقة أحمد إبراهيم الطاهر، وكان حضورهما بمثابة مقدمة لتوافد قيادات الدرجة الأولى بالمؤتمر الوطني، عقب انتهاء اجتماعهم، تبعهم الأمين العام للحركة الإسلامية الزبير أحمد حسن ثم النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق أول ركن بكري حسن صالح، في لحظات بددت قلق الانتظار بعد أن دنت ساعة الخطاب ومقدم الرئيس.

رسالة للشباب
أبرز ما تضمنه خطاب الرئيس رسالة وجهها لشباب البلاد وقال إنهم يمثلون جل الحاضر وكل المستقبل وإنه يتفهم مطالبهم الموضوعية وأهدافهم وأحلامهم المشروعة لأنه يريدهم أن يظلوا أبداً أيادي لبناء وطنهم وتشييد نهضته والثقة فيهم، وأكد أن الرجاء فيهم مأمول والفرص لهم للقيادة والبناء قائمة. وأشار الرئيس إلى أن كل المشروعات الكبرى التي قامت في عهد الإنقاذ من طرق وجسور وجامعات والتصنيع الحربي والمدني والسدود وشبكات الكهرباء والمياه إنما قامت بأفكار وطاقات الشباب السوداني الخلص وأنه يثق في أن أيادي شادت هذه الصروح لن تكون معولا لهدمها وتخريبها. وقال البشير إنه اليوم أكثر قناعة من أي وقت مضى بفتح الأبواب مشرعة أمام الأجيال الجديدة لتقدم مساهمتها لسفر الوطن برؤيتها الواعية وتجاربها المتنوعة وأن من الأفضل للوطن وقواه السياسية أن يكون ذلك بالتدافع الحسن والخيار البناء بين الأجيال المختلفة، وهذا ما سنعكف عليه في الأيام القادمة.

عزاء لأسر الضحايا
الملمح الثاني في خطاب الرئيس البشير ورد في ترحمه على الذين فقدوا أرواحهم في الأحداث الأخيرة، مبرقاً على الهواء أسرهم المكلومة بتعازيه ومواساته لهم في فقدهم. وأكد الرئيس البشير أنه ينتظر نتائج التحقيقات العامة ولجان التحقيق الأخرى وتوصياتها وتعهد بأن يكون العدل والقانون هما الفيصل.

دروس مستفادة
الرئيس البشير قال إن الدروس المستفادة من خلال التجربة الوطنية تشير إلى أنه لا بديل للحوار إلا الحوار، وفي قضية الوطن الكل كاسب دون نصر أو خسارة لطرف، وقال إن الخيارات الصفرية والعدمية لن تحل مشكلة البلاد، وهو ما يكشف عن حاجة الجميع للتحرك للأمام نحو الوطن للبناء حول ما هو متوافق عليه والحوار على ما هو مختلف عليه. وذكر البشير أن البلاد لن تتجاوز المنهج السابق بإيقاف الصيرورة والعودة للمربع الأول، ومن ثم محاولة التقدم ثم التقهقر مرة أخرى إلى النقطة الصفرية، وقال إنها عملية دائرية لا تبني وطناً.

من منصة قومية
المنصة القومية والوقوف على مسافة واحدة من الجميع التي قالها البشير فتحت جدلاً كثيفاً حول العبارة التي وردت في ثنايا الخطاب، وفسر البعض أنها تعني تخليه عن قيادة حزب المؤتمر الوطني، وهو ما نفاه عدد من قيادات الوطني. وكان الرئيس البشير قد قال في خطابه إنه ومن موقع مسؤوليته الدستورية والأخلاقية عن كل الشعب السوداني فإنه سيقف على مسافة واحدة من الجميع، داعياً السودانيين بلا استثناء للتحرك للأمام من أجل الوطن، وزاد: “وأرفع النداء عالياً من منصة قومية للشباب في كل الساحات وللشيوخ والنساء الماجدات وكل قطاعات الشعب السوداني أن الوطن في أشد الحاجة للتوحد لرسم مقاربة متجددة ومسار يفضي لتوافق وطني يحفظ الوطن ويطور الحياة السياسية والاجتماعية فيه”.

مسار الحل
أبرز نقاط خطاب البشير تلك التي أنهت حالة الانتظار التي فاقت الستين يوماً منذ تفجر الاحتجاجات والتظاهرات لمعرفة رؤيته للحل، حيث قال الرئيس أمس إن المطروح من جانبه سيكون مساراً وإطاراً للحل وليس الحل بعينه لأن الحل أمر يجب أن يشارك الجميع في إنجازه. لكن الرئيس عاد قائلاً إن مسار الحل الوطني المتوافق عليه حتماً ليست الخيارات الصفرية ولغة الإقصاء سواء أتت من موالٍ أو معارض بل حل يحفظ ويصون وحدة البلاد وأمنها ويجنبها مصائر شعوب وبلاد ليست بعيدة. وأكد أنه سيعمل على تهيئة المسار الوطني عبر وثيقة الحوار الوطني واستكمال لم شمل القوى السياسية، وقال إن سمعه وبصره سيتسعان لسماع أي مقترحات جديدة. ومن بين خطوات تهيئة المسار طلب الرئيس البشير من البرلمان تأجيل النظر في التعديلات الدستورية المطروحة أمامه فتحاً للحوار وإثراءً للساحة بالمبادرات الوطنية، وتعهد برعايته لهذه العملية من منصة رئاسة الجمهورية القومية والوقوف على منصة واحدة من الجميع.

حلول عاجلة
أما أبرز الحلول العاجلة التي قال الرئيس البشير إنه سيقدم عليها هي تدابير اقتصادية محكمة ستتخذ عبر حكومة مهام جديدة ستقوم بتكليف فريق عمل تنفيذي لها من كفاءات وطنية مقتدرة لإنجازها إلى حين استكمال العملية الحوارية بوقتها الضروري.
جدل الطوارئ
الرئيس البشير قال إنه وفي سبيل الاستعداد لترتيب المشهد السياسي الوطني بما يحقق الإجماع والوفاق بما يحقق أحلام الشعب في الرفاهية والنماء فرض حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد لمدة عام واحد وحل حكومة الوفاق الوطني وحل الحكومات الولائية وسنوالي تباعا اتخاذ التدابير والقرارات اللازمة لتنفيذ كل ما ذكر. وأثار الحديث عن الطوارئ جدلاً كثيفاً في الأوساط السودانية. وأبلغت مصادر مطلعة (السوداني) أنها كانت من بين أسباب تأخر اجتماع المكتب القيادي حيث تحفظ عدد من الأعضاء عليها، لعدم وجود ما هو ضروري بشأنها. وأكدت المصادر أن الرئيس البشير شرح لأعضاء المكتب القيادي للوطني أسبابها التي من أهمها المحافظة على موارد البلاد ومنع التهريب وحماية الإنتاج الاقتصادي.

الجيش في البال
وضعية القوات المسلحة شغلت حيزا في خطاب ورسائل الرئيس البشير للقوى السياسية والمسار الذي فتحه لصياغة الحل المتوافق عليه. وقال الرئيس: “يجب النظر لدور الجيش في المشهد الوطني كضامن وحامٍ للحوار وأن يفصل الحوار ذلك”.

الشارع السوداني
بالنظر إلى ردود الشارع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فقد انقسمت إلى ثلاثة: شعرت الأولى أنها حققت إنجازاً تمثل في إصدار الرئيس قرارات جوهرية بإيقاف التعديلات الدستورية وما تسرب إليها من تنوير مدير جهاز الأمن أن البشير لن يترشح مرة أخرى، فيما كانت الثانية ترى أن الإنجاز والفرحة لم تكتمل نسبة لإعلان حالة الطوارئ التي قد تقيد الحركة وتزيد من قسوة التعامل مع المحتجين والمتظاهرين، أما الرأي الثالث، فتمثل في أن الخطاب لم يُلبِّ مطالب المحتجين برحيل الحكومة.
تجمع المهنيين وضع رده قبل سماع خطاب البشير، قائلاً إنه سيواصل الاحتجاجات، في وقتٍ كانت فيه بعض قوى المعارضة داخل القصر تؤكد أن ما قاله البشير هو ما كانت تصبو إليه.

ملامح من الخطاب
كانت المرة الأولى التي يترحم فيها البشير على أرواح من فقدوا في خطابٍ رسمي، اعتبر فيه أن أكثر ما كان مؤلماً هو “فقد أبناء من الوطن” وهو ما دعاه لتجديد الدعوة للحوار.
البشير وضع الشباب نصب عينه بتأكيده أن ما أنجز من مشروعات من طرق وسدود وجامعات قامت بطاقات الشباب، معتبراً أن الأيادي التي بنت لن تهدم.
وبصورة شبه مباشرة، حذر البشير من الإقصاء، في إشارت لـ”تسقط بس وتقعد بس” أياً كان التوجه واللغة، بحسب ما قال.
البشير دعا أيضاً البرلمان إلى تأجيل النظر في التعديلات الدستورية، وأكد أنه سيقف في منصة قومية على مسافة واحدة من الجميع.

صحيفة السوداني.