تاجوج والمحلق .. سيرة أشهر قصة حب سودانية
في ولاية كسلا، شرق السودان، ولدت أشهر قصة حب، إلى حد أنها شبيهة بقصة قيس وليلى، لكنها حقيقة نستطيع أن نتلمس وقعها على الأرض والوجوه وفي ذاكرة القبيلة التي أنجبت “تاجوج والمحلق”، أشهر عاشقين على مر التاريخ السوداني.
انتهت حياة العاشقين إلى تراجيديا موغلة في المأساة ألهمت الشعراء والفنانين على نحوٍ دائم، وتناسلت الحكايات حولهما جيلًا بعد جيل، لذا جاءت رحلة “ألترا صوت” إلى وجهة غير مكتشفة ضمن جغرافيا السودان المنسية، تمور بالبداوة والحنين وطواحين الذهب.
نحن الآن في شرق السودان “مسرح المأساة الأسطورية”، وتحديدًا في قرية عناتر، بين سفوح التاكا وعلى ضفة نهر سيتيت. تبدو الطبيعة قاسية، لكنها تنبض لتحكي برقة كيف يمكن للمشاعر أن تتوهج وسط هذه التلال، وتحت سماء تحتشد بالسديم.
نحاول أن نعثر على قبر تاجوج والمحلق. نتقصى أثر الخطى الضائعة في الرمال؛ ثمة مدرسة مسورة بشوك “الكتر” تعلوها لافتة للأميرة الميتة، وجغرافيا تطل عليها الشمس كأول ما تطل على بلاد السودان، بينما يرقد القبر، قبر تاجوج على بعد عشرات الكيلومترات من حاضرة مدينة كسلا، وتحيط به شجرتا دوم ما زال أثرهما باقيًا حتى اليوم، حيث قتلت تاجوج ووريت الثرى، دون أن تتوارى قصتها.
الطلاق المميت
تندفع رياح الهبباي مع أصوات النوارس لتلامس شاهق الجبال، فتحدث موسيقى تخترق جدار الروح؛ على القارئ أن يحبس أنفاسه، ويتحفز لمعرفة ما جرى في هذه المضارب البعيدة. حكاية كان حريًا لها أن تخلد، مثل قصتي روميو وجوليت وقيس وليلى، مثل كل قصص حب الأسطورية، جئنا لنفض مغاليقها .
بين قبائل الضباينة والبني عامر والشكرية والأحباش، عاشت قبيلة الحمران التي أنجبت تاجوج والمحلق، في طقس عامر بالمغامرات، وفي أوساط القرن الـ18 الميلادي تقريبًا، دارت فصول الحكاية، مفعمة بالأسى، ولا يمكنك تصور فداحة ما جرى للمحلق وما جرى أيضًا لتاجوج بعد أن تزوجها وطلقها.
في تلك الليلة، بدأ يعبث بجمالها، وهجم عليها بقسوة وأرادها أن تتجرد من ثيابها ليراها صاحبه “ود اللمم” من وراء الخباء، كان يتغنى بها على مرأى من أصحابه حتى تعلقوا بها، وعندما أحست بوقع الخيانة، سعت نحوه بجسدها الفاخر، وتجردت من دثارها وانسكب شعرها الفاحم على لون بشرتها الحنطي الجميل، بدا ضوء القطران يذبل، وجسدها يكاد يخطف بريق عيني المحلق، لكنها أخذت عهدًا بالطلاق قبل أن تتعرى على ذلك النحو.
مأساة الدوبيت
نستدعي ليلة زواجها الأولى، وهى ترقص بدلال، وترتفع بصدرها كالأوزة، وتنثني بعودها اللادن، فتبرز مفاتنها الصاخبة؛ إنها سيدة نساء القبيلة ومضرب الأمثال وابنة أعال القوم، يرفرف فوقها ملاك الحب الطاهر. ترقص وهي مزينة بالخرز والحجول، وعيناها الكحيلتين يلتمع تحتهما زُمام مُذهب، يتدلى من فتحة الأنف الصغيرة.
محلية واد الحليو
ولكن منذ طلاقها لم تنسل إلى الفناء تحدق في دجاجاتها وتسقي غنيماتها ثم تمضي لتمشط شعرها، وهي تنتظر نصفها الآخر على أحمر من الجمر. كان المحلق يدخل عليها بثوب نصف عار، وصدره يموج بالتمائم، بينما يتلاصف شعره المدهون بـ”الودك” ليلقى على خليلته شعر “الدوبيت”.
قبيلة المرأة المباركة
نقترب من محلية ودا لحليو، ولا تكاد تفصل بيننا وإثيوبيا سوى “حمداييت”، المدينة الحدودية التي هي خليط من الأحباش والشكرية والبجا. سد ستيت الذي يشتعل بالتوربينات المائية عبرناه للتو. مزارع السمسم والذرة على مد البصر. الناس هنا يصنعون الحب؛ مسالمون ومطمئنون كما يبدو.
هنا مشروعات لتشيد القرى والخدمات بتمويل من دولة قطر. رتل من خزانات المياه تجرها بغال ناحلة، فيما لا يزال منزل عمدة الحمران، محمد عمر عوض عجيل على هيئة قطية مبنية من القش وعيدان الكتر، والقبيلة نفسها تمتد بين السودان واليمن، موصولة بالرحم مع قبيلة آل الأحمر.
ينبغى الإشارة إلى أن الحديث عن تاجوج والمحلق في عهد العمد السابقين كان من المحرمات، فهي حكاية وإن ذاع صيتها، إلا أن القبيلة لا تفضل إثارتها، ربما لأن دم تاجوج لا زال يجري في شرايين النساء والرجال الذين يتسمون بطباع البدواة، فلا تزال ابنتهم التي هام بها الشعراء حية في عيون الفتيات، كل واحدة تتمثلها يوم زواجها، ويستدعيها البعض باعتبارها امرأة مباركة.
عمودية الشيخ عجيل
حدثت القصة في فترة عمودية الشيخ عجيل، قبيل هذا الأوان بأربعة عمد تقريبًا، ويعتد الكثيرون، بل ثمة يقين، بأن عندها شعرة من شعرات نبي الله يوسف، كما ذكر لنا العمدة.
تمنتها والدتها في ليلة القدر، ودعت أن يرزقها الله ابنة فريدة في نوعها وصالحة في ذات الوقت. ورغم أن هنالك نساء جميلات، ولكن مثل تاجوج لم تشتهر واحدة قط، فهي مدفونة في منطقة كسلا، ثمة قرية باسمها مررنا بها للتو، وكان الحمران أثرياء وفي موسم الصيف يرتحلون إلى منطقة منصورة ونهر القاش بحثًا عن الماء والأراضي الخصبة.
ومثل مصير المحلق انتهت تاجوج بمأساة كانت هي ضحيتها، إذ اغتالها قطاع الطريق في ضاحية من ضواحي التاكا جنوب مدينة كسلا الحالية، حتى لا يفتتن بها الرجال، وكان موقع مصرعها مخلدًا في لوح القبيلة، وقلوب السودانيين.
العمدة محمد عمر عوض عجيل، هو زعيم الحمران، يستقبلهم بحفاوة ويستمع لهم ويدير شؤونهم بحكمة وصبر، فضلًا على ذلك فهو يحتفظ ببعض آثار القبيلة: خرائط وأوراق نادرة وأختام ، بالإضافة إلى لوح شرف عمد القبيلة منذ قرون، يبرز في اللوح المغلف بالألمونويم الشيخ محمد الأحمر (1400م) والشيخ أبولوم، والشيخ علي الهالكين والد تاجوج، وعم المحلق وهو العمدة الثالث.
لا زالت هنالك بعض العادات القديمة التي تأصلت في الحمران: الكرم والفراسة والنبل وتقدير الجمال، كما أن اسم تاجوج لم يختف بالمرة، فأي بنت مليحة هي تاجوج الأخرى. وقد احتفظوا أيضًا بتقاليد الزواج والرحيل.
الأرض والقبيلة
حكى العمدة محمد عجيل لـ”لترا صوت” قصة القبيلة والأرض، قائلًا: “هذه المنطقة جاذبة للسكان، وفيها ما لا يقل عن 120 ألف نسمة”. وهي منطقة “آمنة وواعدة”، كما يقول العمدة، وتمنح زكاتها كل عام 10 آلاف شوال، والربط الذي تجنيه حكومة كسلا منها أكثر من مليار و500 جنيه زكاة سمسم. لكنها مع ذلك للأسف تفتقر للخدمات، وهي تحادد إثيوبيا وإريتريا، والدولتان واقعتين في عمودية الحمران بمنطقة ودا لحليو.
وأضاف العمدة محمد عمر: “كل اللاجئين من إثيوبيا وإريتريا أيام الحرب، كانوا يقيمون محلية ودا لحليو، تحت ضيافتنا، بما في ذلك جبهة التحرير الإريترية”.
وكشف عمدة القبيلة عن أن الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي كان يقيم لاجئًا بينهم قبل أن يصبح مضيفًا: “كان يقيم بالأيام بيننا، وكانت هنالك مجموعة من الكنائس في المنطقة، فضلًا على ذلك فكلما شعر قادة الثورة الإرترية بأي خطورة على حياة أفورقي كانوا يستجيرون بالقبيلة ويخبئونه في هذا المنزل المعروش بالقش والحصير” مشيرًا إلى المنزل الذي نقف إلى جواره.
العربي الجديد