نهاية علاقة الحب .. الكراهية بين ترامب ونيويورك
في الذاكرة الشعبية الأميركية، يعني الرئيس دونالد ترامب الوجه الآخر لنيويورك بشقائها الرأسمالي وسطوتها العمرانية واستعراضها الإعلامي وثرائها الفاحش. ابن حيّ كوينز صنع مجده في نيويورك، وحين ضاقت به المسافات وفرص تكاثر المال، ذهب إلى روسيا والصين والخليج، حتى أصبح رئيس الصدفة في حملة انتخابية مغامرة، حتى هو لم يتوقع أن تجعله الرئيس الـ45 للولايات المتحدة. إعلان ترامب أخيراً نقل مقرّ إقامته من نيويورك إلى فلوريدا، أعاد تسليط الضوء على علاقته المعقدة مع هذه المدينة، وعلى توقيت إعلانه الطلاق مع مسقط رأسه الليبرالي. ترامب، الذي ورث الأعمال العقارية عن والده، عاش في الطابق 58 من مبنى “ترامب تاور” في الجادة الخامسة الشهيرة في نيويورك منذ عام 1983 حتى انتقاله إلى البيت الأبيض بداية عام 2017. وفي نهاية شهر سبتمبر/أيلول الماضي، قدّم أوراق نقل الإقامة عند كاتب مقاطعة بالم بيتش ومراقب الحسابات، لكنه لم يعلن هذه الخطوة إلا هذا الأسبوع. وغرّد الرئيس الأميركي على “تويتر” مع إعلان انتقاله إلى فلوريدا بعد نهاية ولايته الرئاسية: “سيكون دائماً لنيويورك مكانة خاصة في قلبي”.
يمكنني أن أقف في منتصف الجادة الخامسة وأطلق النار على شخص ما، ولن أخسر ناخبين
ترامب كان يكرر دوماً خلال حملته الرئاسية عام 2016، قائلاً: “يمكنني أن أقف في منتصف الجادة الخامسة وأطلق النار على شخص ما، ولن أخسر ناخبين”. رمزية هذا الكلام حينها، مفادها أن كل الفضائح لن تعطل طموحاته الرئاسية. والأهم تختصر هذه الجملة هذا الإفلات الدائم من العقاب في حياته، من التهرب من دفع الضرائب في نيويورك، إلى إعلان إفلاس شركاته لتفادي الديون، من محاولة عرقلة العدالة كرئيس في تحقيق روبرت مولر عن التواطؤ المحتمل بين حملته والكرملين، إلى ابتزاز نظيره الأوكراني فولوديمير زيلنسكي ليساعده في الكشف عن أيّ فساد محتمل في محيط منافسه الديمقراطي المحتمل جو بايدن في الانتخابات الرئاسية العام المقبل.
الفوارق شاسعة بين نيويورك وفلوريدا، كلها تعكس الدلالات الرمزية لخطوة الانتقال من مدينة “التفاحة الكبيرة” إلى ولاية “الشمس المشرقة”. بالم بيتش مدينة يبلغ تعدادها السكاني نحو 8 آلاف نسمة، مقارنةً بنيويورك التي يبلغ عدد سكانها نحو 8 ملايين نسمة. نيويورك معروفة بمعدلاتها الضريبية العالية مقارنةً بفلوريدا، التي تُعدّ واحدة من سبع ولايات أميركية لا ضريبة فيها على الدخل، وليس فيها ضرائب على العقارات والميراث. نيويورك ليبرالية بامتياز، ولا منافسة فيها خلال الانتخابات الرئاسية مقارنةً بفلوريدا الولاية المتأرجحة انتخابياً التي غالباً ما تصنع الرؤساء. في نيويورك، عمدة المدينة هو الديمقراطي بيل دي بلازيو، وحاكم الولاية هو الديمقراطي أندرو كومو، مقارنةً بعمدة بالم بيتش الجمهوري غايل كونيغليو، وحاكم فلوريدا الجمهوري رون دي سانتيس. على الرغم من أن أغلبية أملاكه في نيويورك، لكن ترامب يملك منتجع مارا لاغو في بالم بيتش، الذي سيصبح بديلاً من “ترامب تاور” في نيويورك.
الحاكم كومو أعرب عن سروره حيال “الخلاص” من ترامب، مشيراً في تغريدة على “تويتر” إلى أن الرئيس الأميركي لم يدفع أصلاً الضرائب المترتبة عليه، لكن لا يتوقع أن تترك سلطات نيويورك ترامب بسلام. المدقق المالي يلاحق عادة أثرياء المدينة الذين يغادروها تهرباً من الضرائب، لأن تغيير مقرّ الإقامة لا يكفي، وعلى ترامب (أو أي شخص آخر مكانه) أن يبرهن أن فلوريدا هي فعلاً مقرّ إقامته الجديد (أي يمضي فيها أكثر من 183 يوماً في السنة) لكن ترامب يقضي بحكم رئاسته معظم وقته في العاصمة واشنطن.
في مسقط رأسه في حي كوينز حصل ترامب على 20 في المائة من الأصوات
في بداية ولايته الرئاسية، كان ترامب يعود دورياً إلى نيويورك، لكنه استبدل بذلك منتجع الغولف الذي يملكه في ولاية نيوجيرسي المجاورة، لأن التكلفة على الخزينة الفيدرالية في يوم واحد في نيويورك (308 آلاف دولار) تساوي تكلفة تمضية شهر كامل في نيوجيرسي، كذلك كانت تضطر الشرطة إلى إغلاق بعض شوارع مانهاتن، ما يسبّب زحمة سير جعلت أهل المدينة يكرهون ترامب أكثر. وكان كلما يزور المدينة تنتظره تظاهرات خارج “ترامب تاور”، والمدّعي العام لحيّ مانهاتن سايروس فانس جونيور، لا يتوقف عن تعقب عائداته الضريبية، التي لا تزال سراً من أسرار الدولة، رغم كل المحاولات القانونية والتشريعية للكشف عنها، وهناك دعاوى قائمة من مدينة وولاية نيويورك على إدارة ترامب وسياساتها في الهجرة.
كان معروفاً عن ترامب خلال مسيرته في نيويورك أن لا أيديولوجية له غير المال. كان يتبرّع للحملات الانتخابية للديمقراطيين والجمهوريين حتى يضمن وجود حلفاء له في كل مواقع السلطة المعنية بالمدينة. وعندما تبنّى ترامب الأفكار الشعبوية والمحافظة والقومية، بادر هو أيضاً، إلى حدٍّ ما، إلى قطع علاقته مع نيويورك قبل أن تقاطعه المدينة وأهلها. في حيّ كوينز حصل ترامب على 20 في المائة من الأصوات فقط في الانتخابات الرئاسية عام 2016، وفي مانهاتن 10 في المائة فقط. كذلك أُزيل اسمه عن مبانٍ في مدينة نيويورك بعد توليه الرئاسة، ردّاً على أدائه السياسي المثير للجدل.
في كتابه “فن الصفقة” الذي نشره عام 1987، كتب ترامب: “لأنني نشأت في كوينز، اعتقدت ربما إلى درجة غير عقلانية أن مانهاتن ستكون دائماً أفضل مكان للعيش، مركز العالم. أي مدينة أخرى يمكنها أخذ مكان نيويورك؟”. يبدو أنها بالم بيتش في فلوريدا، لم يعد هناك إمكان للتعايش بين الرئيس الشعبوي المحافظ ومدينته الليبرالية المتحررة.
العربي الجديد