اقتصاد وأعمال

السودانيون عالقون بين لعنة الخبز ونار الوقود

عادت عبارة “لم تسقط بعد” لتسيطر على أحاديث السودانيين، الذين يرون أن ثورتهم لم تحقق أهدافها في تغيير المنظومة الاقتصادية والاجتماعية بعد إسقاط نظام عمر البشير. الأوضاع المعيشية تزداد سوءاً. الأسعار تواصل ارتفاعاتها. الطوابير تطول أمام محطات الوقود والمخابز. البطالة تتمدد وتجرف معها آلاف السودانيين إلى تحت خط الفقر. باختصار، لا شيء يطمئن المواطنين إلى مستقبلهم، ولا إجراءات حكومية تشعرهم أن ظروفهم الحياتية ستتحسن.

وتأتي كل هذه المعاناة، بالتزامن مع بيانات الجهاز المركزي للإحصاء في السودان، الذي أكد في نهاية الأسبوع أن معدل التضخم السنوي في البلاد بلغ 64.28% في يناير/ كانون الثاني، من 57.01% في ديسمبر/ كانون الأول، وسط ثبات في المداخيل عند مستويات متدنية.

في حين تتردد معلومات من داخل وزارة النفط أن السودان سيرفع سعر البنزين المباع تجارياً في بعض محطات الوقود إلى 28 جنيها سودانيا (55 سنتا) للتر من 6 جنيهات خلال الأيام المقبلة. وهذه الزيادة تأتي ضمن معادلة غريبة. إذ إن رفع السعر يطاول عدداً من المحطات فقط، بحيث يتاح للمواطنين الذين لا يستطيعون الانتظار في الطوابير، شراء البنزين ولكن بسعر أعلى. قرار رفع موجة الغضب، بحيث يتساءل السودانيون عن سبب التقنين في إمدادات الوقود، إن كان يمكن توفير كميات إضافية بسعر أعلى.

ووسط هذه الأزمات، تتجه السلطات السودانية نحو تعويم سعر الصرف الرسمي للجنيه. وأعلن البنك المركزي على موقعه الرسمي، تخفيضاً جديداً لقيمة العملة المحلية رسمياً إلى 51 جنيهاً مقابل الدولار، من نحو 45 جنيهاً للفترة التي امتدت لعدة أشهر عقب اندلاع الاحتجاجات، فيما تجاوز سعر الدولار في السوق السوداء 105 جنيهات، حسب تأكيدات تجار عملة وسماسرة لـ”العربي الجديد”.

وتفاقمت طوابير الوقود والخبز وأغلقت محطات الخدمة البترولية أبوابها رغم الصفوف الممتدة أمامها. وتوقفت حركة السير تماماً وانعدمت سبل المواصلات خلال الأسبوع الماضي، فيما لا تزال جموع المواطنين تتزاحم للحصول على الخبز أمام الأفران التي أحجمت عن العمل، على الرغم من ضغط وزير التجارة والصناعة وتهديده بالمحاسبة في حال توقف المخابز، وعدم التزامها بالتوجيهات العامة التي اتخذتها وزارته، والتي تصل إلى حد السجن وسحب الرخصة وعقوبات أخرى.

ولم يشفع لوزير التجارة مدني عباس مدني اعتذاره للشعب السوداني عن عدم تحقيق وعده بإنهاء صفوف الخبز، من دون أن يوضح الأسباب. بل تمنعت المخابز عن العمل صبيحة اليوم التالي لمؤتمره الصحافي الذي عقده الخميس، من دون مبررات تذكر. ويقول عدد من أصحاب المخابز إن حصص الدقيق تناقصت عن السابق، متجاهلين قرارات الوزير، والتي قالوا إنها غير موفقة لأنهم في الغالب يشكون من غلاء مدخلات الإنتاج الأخرى مثل الخميرة والزيت والملح والعمالة والكهرباء التجارية وشح غاز المخابز.

وبما أن وزير التجارة والصناعة ذهب بعيدا في اتجاه تحرير سلعة الخبز بتخصيص مخابز تجارية سيتم التصديق على رخصها في مدة أقصاها 45 يوماً، فإن أصحاب المخابز يرون أنها مدخل لرفع الدولة يدها عن الدعم، خاصة وأن مشكلات المدخلات لا تزال تعيق عمل المخابز التي تدعمها الحكومة، مؤكدين عدم جدوى الضوابط التي تحدث عنها الوزير في ما يتعلق بالخبز المدعوم والتجاري تخوفاً من التهريب.

ورغم أن مدني عباس أكد أن سلسلة توزيع الدقيق تعاني مشاكل الرقابة والمتابعة، إلا أن وكلاء الدقيق الذين طالبهم الوزير بإعادة التسجيل مرة أخرى بالوزارة حتى لا يفقدوا فرصهم في التوزيع، أكدوا استعدادهم لضبط المنظومة وقبول كل أنواع الرقابة.

المستهلكون وصفوا تكرار أزمة الخبز بـ “اللعنة” التي أصابت المواطن في مقتل، وبرروا ذلك بالارتفاع الكبير لأسعار الدقيق، ما يمنعهم من صناعة الخبز في المنازل. وقالت المواطنة ست النفر إسماعيل لـ “العربي الجديد”: “ما زلنا في انتظار المجهول. لن نستطيع أن نستعيض عن الخبز لأن تكلفة البدائل كبيرة وبعيدة عن المتناول. والدخل ثابت والغلاء مستفحل، ولذلك فإن اتجاه الوزارة إلى تخصيص خبز تجاري يعني المزيد من المعاناة وزيادة في التكلفة”.

أما الموظف محمد ياسين، فقال إن هناك أموراً غير طبيعية تحصل في السوق “إذ حينما توفر الحكومة الدقيق تظهر في الأفق مشكلة الغاز والعمالة والكهرباء والمدخلات، فلا بديل للحكومة إلا الاستمرار في دعم كل مدخلات إنتاج السلعة لكي يصل الخبز إلى البيوت”.

وحمل الاقتصادي ميرغني ابن عوف الحكومة مسؤولية أزمة الخبز، كونها “عجزت عن إيجاد حلول جذرية”. وقال لـ “العربي الجديد” إنه “سيان عند المواطن إن كان سبب الأزمة نقص الوقود أم غياب الغاز أو دقيق القمح، فالمواطن ليس مسؤولاً عن توفير مدخلات صناعة الخبز، وبما أنها مسؤولية الحكومة فلا عذر لها إن فشلت في توفيرها”.

في حين وصفت الخبيرة الاقتصادية إيناس إبراهيم الأزمة بالإدارية. ودعت في حديث مع “العربي الجديد” لإعادة هيكلة المؤسسات المعنية بحياة المواطن، وأن يطرح الأمر عند أعلى السلطات الإدارية حتى يتم تلافي هذا الخطر الذي يمس حياة المواطن بشكل مباشر.

وفي منحى آخر، طالب وزير الطاقة والتعدين عادل أحمد ابراهيم الشعب السوداني، بالصبر. وقال “ليس لدينا ما يقال أكثر من هذا”. وعلى الرغم من أن الحكومة بررت اشتداد وطأة أزمة الوقود بأعطال طاولت الخط الناقل للنفط الخام إلى مصفاة الخرطوم، الا أن مراقبين أكدوا على أن شح النقد الأجنبي للاستيراد دفع إلى تقليل الكميات الموزعة على المواطنين الذين بقوا ثلاثة أيام في مطلع الأسبوع الماضي، ينتظرون أمام محطات الوقود، التي أعلن عدد منها التوقف عن الخدمة.

وحرر وزير النفط والتعدين خطابا إلى شركتي “النيل للبترول” و”أويل أنرجي” وافق في متنه على السماح باستيراد وتوزيع وبيع الوقود بالسعر التجاري مدعوماً بقيمة 50% ليكون سعر لتر البنزين 28 جنيها إلى حين إشعار آخر. على أن يسري القرار اعتباراً من الخامس عشر من فبراير/ شباط مع مراعاة العمل 24 ساعة. إلا أن خبراء وصفوا الخطوة بأنها بداية لتحرير الوقود، كما أن تخصيص بيع وقود تجاري في ظل طرح آخر مدعوم يفتح الباب أمام التهريب واتساع السوق السوداء، مدللين على ذلك بضعف الرقابة على المحطات المدعومة.

ولم تلتفت وزارة النفط للأصوات التي ترى أن الأمر مقدمة لرفع الدعم، بل سارعت إلى تحديد عشر محطات بولاية الخرطوم لبيع الوقود التجاري، منها أربع محطات بمدينة الخرطوم وثلاث لكل من مدينتي أم درمان وبحري، ولكن الأزمة استفحلت أكثر من ذي قبل، وعلى مدى ثلاثة أيام خلت المحطات من الوقود بلا توضيحات من أصحاب المحطات، ولا تبريرات من الحكومة.

وأقرت وزارة الطاقة والتعدين في بيان لها بمعاناة المواطن والأزمة التي طاولت معيشته، وتأسفت لهذا الوضع، وقالت إنها تتحمل المسؤولية كاملة وتتحمل كل تبعاتها، وإنها اتخذت من الإجراءات والتحوطات ما يمنع تكرار الأزمة مرة أخرى. وعاودت الحكومة التبرير بأن الأزمة سببها عطل فني أدى لانسداد الخط الناقل، ما أدى إلى توقف جزئي للمصفاة التي تغطي 65% من استهلاك المشتقات النفطية.

ورأت أنها قدمت حلولا متمثلة بتوزيع الوقود من المستودعات لتغطية الطلب واستوردت كميات إضافية لسد النقص، وأن مصفاة الخرطوم عاودت العمل مستفيدة من الضخ العكسي لخام الصادر في بورتسودان ومن التدفق الجزئي لخط هجليج.

واعتبر مواطنون أن كل الخطوات التي تقوم بها الحكومة لمعالجة الأوضاع المعيشية تشير بوضوح إلى اتجاه نحو رفع الدعم عن الوقود والدقيق. ما يعني اشتعال نار الأسعار من جديد لأن الوقود يعتبر المحرك الأساسي لاستقرار أسعار السلع. وأكدوا أن مقترحات وزارة الطاقة والتجارة بتخصيص محطات ومخابز تجارية هي في الأساس خطوة لرفع الدعم بصورة غير مباشرة، فيما طالب عدد من المواطنين برفع الدعم مباشرة من دون اللجوء إلى الخطط البديلة التي تساعد كثيراً على تهريب السلعة مجدداً إلى خارج البلاد.

ورأى أحد موزعي شركات البترول في خطط وزارة الطاقة أنها تحتاج إلى إجراءات فنية ومالية تتحكم في التفريغ والتوزيع إضافة إلى الجوانب الإدارية. وقال إن هذه الإجراءات ستثير الكثير من المشاكل ما لم تتوافر الكميات الكافية من الوقود للمواطنين.
ابراهيم، وهو صاحب شاحنة لنقل البضائع، قال إن هنالك أثرا للدولة العميقة حتى في التوزيع، وفي الاضطراب الذي حدث في المصفاة، وفي العدد الكبير من الشركات التي تعمل في مجال النقل والتوزيع.

أما الاقتصادي محمد ابراهيم فأكد في حديث مع “العربي الجديد” أن تخصيص وقود تجاري وتحديد الحصة لن يقللا من الأزمة، بل إن ذلك يخلق سوقا جديدة للمهربين لأن الكميات الموزعة غير كافية، ما يعنى اضطرار صاحب المركبة لشراء حصة أخرى من الوقود.

وأوضح أن هذا يخلق ما يعرف بالطلب الدوار والمزيد من التهريب والسوق السوداء والتحايل، خاصة في ظل عدم وجود رقابة وآلية تحدد الصرف. كما أن تحديد محطات للوقود التجاري هو رفع الدعم تلقائياً، ما يزيد من السعر الدوار فتتأثر بموجبه كل السلع ويرتفع سعرها. واقترح تخصيص بطاقات توزيع وجسم محايد في المحطات ووضع سياسات واضحة للتوزيع، حتى لا تتسرب كميات الوقود إلى خارج السودان.

بدروه، قال الاقتصادي عادل خلف الله لـ “العربي الجديد” إن الإجراءات مؤقتة لمعالجة الأزمة، وطالب المواطنين بالتفاعل معها لتنظيم آليات إمداد السوق بالمحروقات، معتبراً أن الإجراءات الحكومية المقترحة لا تخلق ندرة في السوق، ولكنها ستخفف من تكدس السيارات أمام المحطات.

وتضرر اقتصاد السودان بشدة حين انفصل جنوب البلاد في 2011، مما كلف الدولة ثلاثة أرباع إنتاجها من النفط، وهو مصدر مهم للعملة الصعبة. وارتفع التضخم في السنوات القليلة الماضية بقيادة الأغذية والمشروبات وسوق سوداء للدولار. وأدى نقص الخبز والوقود، وهما سلعتان مدعومتان من الحكومة، بجانب الزيادات الكبيرة في الأسعار إلى اندلاع احتجاجات أدت إلى الإطاحة بالرئيس عمر البشير في أبريل/ نيسان الماضي.

العربي الجديد