رأي ومقالات

رِماح مظلوم مدني … وكل رِمَاحٍ في الطريق

بغض النظر عن الجدل المصاحب لزيارة اليوتيوبر البرنس لمنزل رماح في مدني ، فقد استنتجت بعد مشاهدة الحوار أن حالة رماح بسبب تعرضه لضغط هائل من ظلم وقع عليه وتطاول دون حل.

والمؤسف في السودان أن ضغط الظلم يتراكم بتطاول المدة وبتواطؤ الكثيرين في طريق المظلوم ، ولا بد من الإقرار أننا في السودان قساة جدا مع المظلوم ، بدءا من الموظف الحكومي الذي يتعامل مع المظلوم وصاحب الحاجة باللامبالاة وربما بالتلذذ في التعقيد والتسويف ، مرورا بالنظام القضائي الذي يظلم أصحاب المظالم بتطاول القضايا لسنوات.
ماهي الفائدة من عدل القاضي إذا كان يأتي بعد سنوات في قضية يمكن أن تحسم في أسابيع ؟

شاهدت قبل أيام في الفيسبوك تسجيلا لبث تحدث فيه أحد ملاك العقارات عن معاناتهم مع قضايا إيجار المثل وقضاياهم مع المستأجرين عموما وكيف أنها تتطاول لسنوات.
تداخلت في النقاش سيدة قالت أنهم بعد سنوات الغربة الطويلة عادوا وطلبوا من المستأجر إخلاء بيتهم الذي لا يملكون غيره والذي صب فيه زوجها حصاد الغربة.

قالت السيدة أنهم بعد وصولهم استقروا مؤقتا في منزل أقاربهم ، وكالعادة رفض المؤجر الإخلاء وتم رفع قضية ، وتطاولت القضية حتى دخلت في عامها الخامس ، وبسبب التأجيلات والتباعد الشديد بين مواعيد الجلسات أصيب زوجها بالغبن والقهر ومات بالذبحة.
طرد حوالي 50 معلما من دولة جنوب السودان :

في عام 2012 كنت أتردد كثيرا على وزارة العمل لمعالجة مظلمة خاصة بي ، فصادفت مظلمة جماعية في غاية الوضوح والغرابة.
نعم ، حوالي الخمسين معلما ومعلمة تم طردهم فجأة من دولة جنوب السودان دون دفع رواتبهم لعدة أشهر بل حتى دون منحهم فرصة تجميع وشحن أغراضهم الشخصية ، أخرجوا بملابسهم وما خف حمله من دولة نقلوا إليها للعمل حين كانت جزءا من السودان باعتبارهم موظفين في الخدمة المدنية لحكومة السودان.

وصلوا الخرطوم وتوزعوا على بيوت أقاربهم ، ثم حضروا لوزارة التربية والتعليم وقدموا معروضا عن حالتهم وطلبوا استيعابهم في الخدمة وتحمل حكومة السودان مسئولية سداد حقوقهم ومتأخراتهم من خزينتها ثم تتولى الحكومة مطالبة حكومة الجنوب بعد ذلك بسدادها.

طلبات واضحة وبسيطة جدا وغير صعبة الإجابة ، ولكن لن تتخيل مدى التعقيدات والمماحكات التي واجهتهم ، واستغرق معلم ومعلمة منهم يقصون على شخصي الضعيف تفاصيل مظلمتهم العجيبة بحماس شديد.

قالوا لي أن المسئولين قالوا لهم رواتبكم ومستحقاتكم خلال فترة خدمتكم في جنوب السودان تطالبوا بها حكومة جنوب السودان !
قالوا لهم كيف نطالب حكومة طردتنا بطريقة مهينة ولم تعطنا حتى فرصة شحن أغراضنا ؟!

طبعا حكومة جنوب السودان أظهرت عنصريتها وكرهها للسودان الشمالي في عدة مواقف ، منها الطريقة التي إنتقلت بها جامعة جوبا التي كانت في الخرطوم وكيف إنتقلت بأثاثاتها ومكاتبها وكادرها الجنوبسوداني وكيف حضر الأساتذة والبروفيسرات السودانيين للدوام وهم لا يعلمون ماحدث ليلا ففوجئوا بالمكاتب قاعا صفصفا وكان من تبعات ذلك تأسيس جامعة بحري لاستيعاب الطلاب والكادر السوداني الشمالي.

أما مظلمة المعلمين والمعلمات المطرودين والمطرودات فقد حفيت أقدامهم بين وزارة التربية والتعليم ووزارة العمل ومجلس الوزراء ، وعلمت بعد شهور أن هناك لجنة قد رفعت توصياتها بمعالجة حالتهم.

السنة الماضية 2020م كنت أدردش مع قريب لي معلم فقصصت عليه مأساة أولئك المعلمين المطرودين في 2012م من دولة جنوب السودان فإذا بقريبي المعلم يبادرني بالقول : هل تصدق ديل مشكلتهم لسه ما اتحلت ؟
كأنما لدغتني عقرب وجدت نفسي أحوقل وأسترجع : لا حول ولا قوة إلا بالله ، إنا لله وإنا إليه راجعون.
معقولة ياجماعة ؟!
سيكون منهم من قضى نحبه ، وسيكون منهم من اغترب ، وسيكون من وصل قاع قاع الفقر ، ولا استبعد أن يكون منهم من يمشي ذاهلا في الطرقات غبنا وقهرا.

الظلم ، وتطاول الظلم ، وتراكم الغبن قد يؤدي للموت قهرا ، أو لمثل حالة رماح ، والله أعلم.
وأول بدايات مغادرة عالم الواقع هو الإحساس بالرغبة الشديدة في سرد مظلمتك بتفاصيلها لكل من يسأل وتدريجيا لكل أحد ، ثم إلى نفسك .
شفى اللَّهُ رِماحاً.

كمال حامد 👓

تعليق واحد