منوعات

“الكمساري” مهنة آخر محطة.. عبقرية التعامل بالإشارة

كلمات ليست كالكلمات، هي سلسلة متلاحقة من السفر والأُنس مع كل كلمة من كلمات اللغة، في كل مرة نحقب أمتعتنا في رحلة مختلفة وفريدة صوب الأنيق من الكلمات ناجزة الوصف، نتحقق منها، نسوح في رحابها، نستنشق عبيرها، ونتذوق طعمها اللذيذ. (اليوم التالي) تصطحبكم هذه المرة في رحلة جديدة مع (الكمساري).. في رحلة لا تحتاج إلى ربط أحزمة أو نحوه، لكننا سنظل متعلقين في طرف باب هذه الرحلة حتى نهايتها، بالسلامة، فعلى الجميع أن يلتزم قواعد الرحلة، لا صفوف، لا ميزان ولا أمتعة، اقذفوا بكفتيراتكم عبر الشباك وتدافعوا نحو الباب:

حركة

وبحركة استرجاعية للغوص في معترك هذه المهنة، نجد أن الكلمة المعرفة بـ: جمع كُمساريّة : مُحصِّل، مَنْ يقوم بقطع التذاكر للركّاب داخل البص أو القطار، الكثير من الناس تجدها معلقة في طرف أبواب هذه الدنيا، في كل المهن الكل يرغب في أن (يحصل) مكان عمله، ولكن الكمساري هو الشخص الواصل الوحيد حتى نهاية الرحلة، الكل على (متن) الرحلة، إلا هو الناشز الوحيد والمحيد من متنها إلى طرف متنها، فالمحصلة النهائية أن الكل سيجني ثمرة اختياره لوظيفته، أما الأخير صاحب ذهبية محصلة الحاصل فارغ، يفني زهرة عمره ووقت شبابه الزاهي خلا بعض الدريهمات من بين عجاج السيارات اللاهثة، ليبحث بعد ذلك من جديد عن وظيفة أخرى بعد أن تتسرب سنوات شبابه إلى حيث لا حيث موزعةً بين الطرقات والأماكن.

طقطقة

طق طق الكمساري، مد له بـ عشرة آلاف جنيه، نفر واحد. صاح في وجهه (وكت عندك عشرة جنيه ما تدفع للجنبك دا).. نظر إليه بحدة، خالها الكاميرا الخفية في بادئ الأمر، لكن تبين له أنه كان يحلم. لكن مرة أخرى “يا ريت لو كل زول عندو عشرة جنيه يدفع للجنبو”.

المهم، لا بد لممتهن هذه المهنة أن يكون ذا كاريزما خاصة جامعة لكل مهن هذه الدنيا، نعرف جيداً أن الطبيب يهتم بالتعمال مع المرضى، والمهندس فيما يشغله من عمل، والطالب فيما يشغل حقيبته من كراريس، والجندي بما أمامه من أعداء وما في جوف ماسورة رشاشه من بارود، لكن الكمساري لديه القدرة على التعامل مع كل صنوف البشر، يجلسهم أمامه ويمارس ألفيته نحوهم بقوة وشكيمة.

وين يا

موجة البرد الأخيرة جعلت منه كائنا لطيفاً وبإمكانه العدول عن مظهره متكيفاً مع المكان والبيئة، ففي تمام ساعات الذروة والبرد يلف كل الوجه تجده متأنقاً ببدلة جميلة إلى جوار البص، تتردد عشرات المرات في سؤاله، الكمساري؟ إلى أن يومئ برأسه مجيباً، نعم. كان يؤشر مرار ناحية سوق ليبيا، فتسأله، الفتيحاب؟ فعندما يرد بحدة، لا أبو ظبي، تتأكد تماماً أنه الكمساري.

محطات

من أشهر الكماسرة الذين نزلوا من على متن رحلاتهم إلى رحاب غير الرحاب الممثل المصري المعروف رياض القصبجي الذي عمل في بداية حياته العملية كمساري بالسكة الحديد، المعروف بالشاويش عطية في أفلام إسماعيل يس، رياض الذي أسعد الناس كثيراً مات تعساً ولفظ أنفاسه الأخيرة بعد وجبة طعمية، مفارقاً الحياة وظل جسده مسجَّى في فراشه منتظراً تكاليف جنازته الذي لم تتسن لأسرته خلا بعض التبرعات الذي سترت جثمانه ووارته الثرى.

أفلام

كمساري، فيلم شارك في مهرجان الخرطوم الأول للهاتف الجوال وحاز على جائزة لجنة التحكيم، الفيلم القصير من تصوير ومونتاج علا الهادي، الفيلم يطرح إجمالاً القول: “حيث أوجد أنا توجد ثغرة في المجتمع توجد بذرة لثمرة لا تنضج كما ينبغي إنما يحصد المجتمع ما زرعت يداه”.

الخلاصة

كل شخص في هذه الحياة مناط به مهمة تحديد مهمته في الحياة واختيار دوره فيها، ربما بنسبة كبيرة يظل الكمساري في الراهن من الأمور مغضوب عليه، مع الوضع في الاعتبار أن الكثير جداً من الكماسرة من حملة الشهادات العليا، ومن هم دون ذلك يتأففون “شغلة ما شغلتنا، لكن الظروف جبرتنا”، دعونا نُقر أن نسبة كبيرة لا ترغب في امتهان هذه المهنة الكريمة، بدليل أن حقيبة الغناء السودانية حملت في دفعها توقيعات كل المهن بدءاً بالدكاترة يالستة، وصولاً إلى حرامي القلوب، إلا الكمساري لم يجد من يطايب خاطره بأنشودة، إذن تبادل المرء المحبة مع منته يصنع المعجزات، فالظروف وحدها لا تجبرك امتهان مهنك، ولا ترغمك على عدم النزول عند أول فرصة أخرى مواتية لصنع ذاتك. فأن تكون أو لا تكون، هو خيارك المتاح، لا تردد هذه المقولة بعد الآن “شغلة ما شغلتنا، لكن الظروف جبرتنا

اليوم التالي