محمية طبيعية تنتج “أغلى أنواع الجبن” من ألبان الاتان “اناث الحمير”
يُعرف القليل عن هذا الطعام القادم من صربيا، والمصنوع من حليب يُعتقد أنه يبطيء من عملية الشيخوخة ويعزز القدرات الجنسية. إنه أكثر أنواع الجبن غلاءً في العالم، ويصنع من حليب الاتان (أناث الحمير).
استلقى سلوبودان سيميتش على أريكة خشبية في غرفة الطعام في محمية زازافيتسا الطبيعية الخاصة، وكأنه يرقة الفراشة المذكورة في مغامرات “أليس في بلاد العجائب”، وكأن ذلك الفناء ملكه وحده، وكان ينفث الدخان من غليون في فمه كثمرة تتدلى من أسنانه.
وتجري التجاعيد ذات الحمرة الواضحة على طول وجهه، مثل روافد نهر، وتلمع عيناه شرراً.
“راكيا؟” سأل وهو يعرض علي جرعة من مشروب البراندي القوي لمنطقة البلقان، والذي عادة ما يحتسونه في الصباح، وحتى قبل تناول القهوة.
“لا، شكراً”، أجبته وأنا أهز برأسي ممتنا. وبدلاً من ذلك، وافقت على احتساء كأس من قهوة تركية قوية مع جرعة من حليب الحمير الذي تنتجه محمية زازافيتسا.
كانت المرة الأولى التي أتذوق فيها هذا الحليب بمذاقه الحلو؛ كنت أكثر لهفة لتذوق جبن حليب الحمير، وهو من الأكلات الراقية التي عرفتها خلال السنوات الأخيرة عندما دارت شائعات مفادها أن بطل التنس الصربي نوفاك دجوكوفيتش كان سيشتري كامل مخزون ذلك الجبن لمطاعمه.
ومع أن الشائعات كانت في غير محلها، إلا أنها أثارت اهتماماً عالمياً بمحمية زازافيتسا، وصربيا بشكل عام.
وبالرغم من أن سيميتش من محبي الطبيعة، فإنه لم يخطط مطلقاً ليبني مزرعة. وتذكر سيميتش، وهو عضو برلماني سابق تحول إلى أحد دعاة المحافظة على الطبيعة، أنه سمع قبل عشرين عاماً حديثا عن أراض خصبة تقع في المناطق الغربية من وسط صربيا، والتي باتت حاليا محمية زازافيتسا. وأخذه حمواه، اللذان كانا يعيشان بالقرب منها، ليلقي نظرة عليها.
ويقول عن تلك البقعة من الأرض: “وقعت في غرامها على الفور”.
تقع زازافيتسا، وهو اسم أطلق عليها تيمناً بنهر يمر بها، على مسافة 90 كيلومتراً فقط من بلغراد، لكن مساحتها البالغة 18250 دونم كانت غير مكتشفة بالفعل.
وتلائم تلك المنطقة هواة مراقبة الطيور، وخلال فصل الصيف، تنبض ألوان الطبيعة فيها بالحياة، إلى درجة تجعلك تخالها من عالم آخر. وبفضل علاقات سيميتش السياسية، حوّل تلك الأرض البرية إلى محمية طبيعية في عام 1997.
وبعدها بثلاث سنوات، كان سيميتش يزور معرضا في بلدة مجاورة، ورأى بضعة حمير بلقانية وهي تتعرض لمعاملة قاسية. إذ يبدو أن أصحابها لم يعودوا بحاجة إليها للعمل أو النقل، فكانت تُضرب، وفي حالة يرثى لها.
جاءته فكرة لإنقاذها وأخذها إلى زازافيتسا. واليوم، يتجول في تلك المحمية الخضراء 180 حمارا بلقانيا، وهي حمير أصغر حجماً من أكثر أنواع الحمير الأخرى، وتتميز بعلامة تشبه الصليب على ظهورها.
ثم أضيفت إليها حيوانات محلية أخرى، بما فيها خنازير مانغاليكا، وأبقار بودوليان التي يعود أصلها إلى الأبقار الأوروبية البرية. كما أعيدت حيوانات القندس إلى تلك المنطقة.
وقال سيميتش: “فقدنا صلتنا بالحيوانات، ونحن بحاجة إلى تلك العلاقة الآن”.
ولكني أتيت من أجل الحمير، وعلى وجه التحديد، من أجل الجبن المصنوع من حليبها، وهو أكثر الأجبان غلاءً في العالم؛ نظراً لقلة إنتاج حليب الأتان من ذلك النوع، فهي تنتج 300 ميلليتر فقط يومياً.
وحليب الأتان غني بالفيتامينات، والمعادن، ويُعتقد أنه يبطيء من آثار الشيخوخة، وكان قد استعمل لتعزيز المناعة في مناطق البلقان منذ أزمان غابرة. حتى أنه يُزعم أن الملكة كليوباترا كانت تستحم به. ويُزعم أيضاً أنه يقوي القدرة الجنسية.
“إذا شربت حليبنا، فيمكنك حتى معاشرة زوجتك”، قالها سيميتش ضاحكاً، وهو الذي تزوج ثلاث مرات. وقد جاءته فكرة إنتاج جبن من حليب الحمير قبل بضع سنوات.
ويقول يوفان فوكادينوفيتش، مدير مزرعة، ومدير سابق بشرطة المرور عن سيميتش: “إنه مليء بأفكار جنونية، ولكنه على حق دوماً”.
لم يُنتج أحدٌ من قبل جبن من حليب الحمير، وتطلّب الأمر عدة محاولات سابقة. وقد أرسل سيميتش في طلب ستيفان مارينكوفيتش، وهو تقني مختص في منتجات الألبان، لأخذ مشورته.
وقد وجد مارينكوفيتش أن حليب الحمير لا يحوي ما يكفي من مادة الجُبنين لعمل الجبن، لذا استعان بإضافة حليب الماعز حتى حصل على خلطة نجحت في النهاية، ويعمل مارينكوفيتش حالياً ليسجل براءة اختراع في هذا الأمر.
وقد ظهر أن ذلك الجبن يتألف من نحو 60 في المئة من حليب الحمير، و40 في المئة من حليب الماعز.
ولكن بالرغم من عدم وجود أنظمة وقواعد ثابتة تتعلق بسلامة حليب الحمير (أو أجبانها) في صربيا، ظهرت مخاوف من استعمال حليب غير معقم، وأجبرت محمية زازافيتسا الخاصة على إيقاف إنتاج الجبن المصنع فيها.
في هذه الأثناء، وحتى تحديد أنظمة رسمية لتلك العملية، يقوم منتجو الجبن المحليون، زوران نيديتش، ومومتشيلو بوديميروفيتش، ومساعدته ميلينا، بإنتاج كميات قليلة جدا من جبن حليب الحمير من خلال تعقيم الحليب بدرجات حرارة محددة، ولصالح محمية زازافيتسا.
وقد جلست إلى طاولة عشاء بوديميروفيتش مع نيديتش وفوكادينوفيتش، وسيميتش، الذين كانوا يتبادلون أطراف الحديث بلغة صربية سريعة. وكانت هناك قطعة من الجبن الأبيض على الطاولة.
سألت: “هل هذه جبنة الحمير؟”. هز فوكادينوفيتش رأسه. “جبنة الماعز، لكي تذوق الفرق بينهما.” كان مذاقها حاداً، وتتفتت بسهولة، مع طبقة خارجية داكنة.
ثم أخرج بوديميروفيتش قطعة أصغر بكثير من جبن حليب الحمير، وكانت ذات صفرة خفيفة، وأكثر تماسكا من جبنة حليب الماعز. كانت هذه القطعة، وهي بحجم كعكة صغيرة، ستُباع بسعر 50 يورو، كما قيل لي.
وقطع لي نيديتش شريحة منها. كانت نكهتها حلوة، وكانت طرية، وخالية من أي إضافات، بخلاف أي نوع آخر من الجبن تذوقته على الإطلاق.
توجهنا إلى غرفة الأجبان لكي نرى كيف يصنع ذلك النوع بالتحديد. في ذلك اليوم، كان صانعو الجبن الثلاثة يمارسون مهاراتهم في تصنيع جبن حليب الماعز، ولكنهم وضحوا لي بأن طريقة عمل جبنة حليب الحمير هي نفس الطريقة أساساً، مع أن طريقة صنعها الدقيقة تعد سرا.
ويضاف قليل من مادة المنفحة إلى الحليب ليساعد في تخثره، وتُعصر الروائب وتعبأ يدوياً في القوالب. وتبقى الأجبان في قوالبها لمدة 24 ساعة، ثم تُنقل لتبرد في مقطورة كبيرة مبردة تقع في فناء يملكه بوديميروفيتش.
كما تبيع مزرعة زازافيتسا مستحضرات تجميل مصنوعة من حليب الحمير أيضا، مثل صابون حليب الحمير، ومراهم ضد الشيخوخة للوجه، وهي تحتوي على أحماض دهنية أساسية، ومستويات عالية من فيتامين أي؛ إضافة إلى مشروب “ليكير” حليب الحمير، الذي يشبه مذاقه مشروب ليمونتشيللو.
وتسعى المحمية الطبيعية، المدعومة بمُنح دولية، لتصبح مكتفية ذاتياً. ويشمل جزء من هذه الخطة بيع المنتجات الحيوانية، إضافة إلى إقامة المخيمات فيها. وقد صُنفت زازافيتسا من بين أفضل 100 موقع لقضاء العطلات والتخييم في أوروبا في عامي 2013 و2014.
أنجزنا شيئاً
قال فوكادينوفيتش: “أنجزنا شيئاً وسط لا شيء. يجب علينا دوماً أن نجد وسائل جديدة من أجل البقاء. يسهل القول إنها ‘سياحة مستدامة’، ولكن الأمر ليس سهلاً. نريد أن نكون الأفضل. ونعلم أنه ليس بمقدورنا تغيير العالم، ولا نستطيع تغيير صربيا، ولكننا نريد أن نقوم دائماً بما هو أفضل بقليل، وتلك هي رسالتنا.”
قبل مغادرتي بلحظات، تجولنا أنا وفوكادينوفيتش عبر المحمية. كانت الحمير ترعى على الشجيرات، وتمرح بين العشب. كانت تمرغ أنوفها وتنظف بعضها الآخر. سار أحدى الاتان بتمهل نحوي.
“إنها حامل”، قال فوكادينوفيتش. وأضاف: “يمكن أن تظل الأتان حاملاً لأكثر من سنة.”
مددت يدي وفركت جبينها، متلمساً بأصابعي شعرها الخشن. مرغتْ بأنفها يدي واتكأت بجسمها على بدني. عندما استدرنا لنغادر، اتبعتني وكانت تحثني لمزيد من الملاطفة.
قال فوكادينوفيتش: “إنها ذكية جداً واجتماعية”. انحنى وعانق رقبتها. “هذا مفيد جداً لازالة التوتر.”
جلسنا بجانب طاولة معدة للنزهة لنتناول طعام الغداء. أشرقت الشمس في الأفق المنبسط، مسلطة الضوء على أطياف متنوعة من اللون الأخضر، من طحالب وأشجار الصنوبر والسرخسيات، على خلفية سماء زرقاء صافية.
كنا نسمع نقيق الضفادع. إحدى طيور اللقلق كانت تحلق فوقنا ثم استقرت فوق عشها الواقع على قمة برج مراقبة زازافيتسا البالغ ارتفاعه 18 متراً.
أخرج فوكادينوفيتش طبقاً من اللحوم المجففة: إنها نقانق لحم المانغاليكا، وقطعة شحم، ونقانق لحم الحمير. وانحنيت بجسمي قليلاً. “جرّبها”، حثّني فوكادينوفيتش، مشيراً إلى نقانق لحم الحمير.
كانت تلك إحدى منتجاتهم التي لم أخطط أن أتذوقها. سألت: “كيف تختارون لحم الحمير المناسب لعمل هذه النقانق؟”. أوضح لي أن ذكور الحمير تشتهي بناتها أحياناً، لذا “يكون وقت النقانق قد حان بالنسبة لها.”
غرزت أحد أعواد المسك في شريحة مرقطة. كانت قطعة اللحم الشحمية متينة، وذات نكهة قوية نوعا ما. بعد مناجاتنا تلك المخلوقات الوديعة، كان أكل لحومها يولد إحساساً بالذنب، لكن زازافيتسا تتقبل بسرور دورة الحياة، بكل ما تزخر به من نواقص وعيوب.
تستطيع هنا أن تعود أدراجك لتعيش حياة اختفت بالكامل تقريباً، عندما كان الناس يجففون اللحوم التي يأكلونها ويصنعون أجبانهم بأنفسهم.
BBC