طب وصحة

اللحوم الحمراء.. هل لها علاقة بأمراض القلب والسرطان

هل من الثابت علميا أن تناول اللحوم الحمراء سبب في الإصابة بأمراض شرايين القلب أو بأنواع من السرطان؟ وهل يعد تناولها سببا للوفاة المبكرة؟ أسئلة تثار بين الفينة والأخرى، وخاصة كلما ظهرت دراسة تثير الشكوك حول أضرار تناولها أو نشرت أخرى تنفي العلاقة الوثيقة بينها وبين النوعية العالية المستوى من الضرر الصحي كأمراض شرايين القلب أو أنواع من السرطان. ومن جهة يتبنى البعض، في الوسط الطبي وخارجه، نظرية مفادها أن هناك علاقة من نوعية السبب والنتيجة بين تناول اللحوم الحمراء والإصابة بتلك النوعية عالية الضرر من الأمراض. وبالمقابل هناك، في الوسط الطبي وخارجه أيضا، من لا يجد لتلك النظرية الإثباتات العلمية الداعمة للقول بها ولتبنيها توصيات عملية للناس في شأن تغذيتهم الصحية. ما هو واضح، أنه لا يزال من غير الممكن حتى اليوم، بل من المبكر جدا، الجزم بضرر «مجرد» تناول اللحوم الحمراء أو الجزم بإثبات سلامتها المطلقة من التسبب بأمراض شرايين القلب أو السرطان أو غير ذلك من الأمراض الخطرة. وما هو واضح أيضا أن الحديث العلمي «الواقعي» يدور حول ضرر «الإكثار» من تناول اللحوم كسبب «محتمل» لإصابة «البعض» بأمراض شرايين القلب أو أنواع معينة من الأمراض السرطانية.
* أساس الإشكالية

* ولسائل أن يقول: ما الذي وضع اللحوم الحمراء تحت مجهر البحث الطبي كعامل ينسب إليه التسبب بأمراض شرايين القلب أو السرطان؟ وللإجابة، هناك ثلاثة عوامل رئيسية لحصول هذه الإشكالية العلمية، وهي:

الأول: يريد الإنسان، أيا كان موقعه، سواء في الوسط الطبي أو خارجه، أن يكتشف أن السبب وراء الإصابة بالأمراض المهمة، كأمراض الشرايين القلبية أو الأمراض السرطانية، يوجد في أشياء قريبة منه، كي يسهل عليه التعامل معها. ولذا، لو ثبت أن تناول اللحوم الحمراء سبب في الإصابة بسرطان الثدي مثلا، فإن من الممكن جدا للكثيرين تجنب تناولها بشكل تام، وبالتالي يتحقق لهم نوع من الحماية ضد الإصابة بهذا النوع من الأمراض، ويشعرون أنهم قدموا شيئا مفيدا لصحتهم. أما حينما تظل عوامل الإصابة بهذا النوع تترنح ما بين الوراثة والتلوث البيئي والتقدم في السن وغيرها، فإن المرء يشعر بالعجز إزاء ما يمكنه فعله لتقليل احتمال إصابته بهذا المرض. وكذلك الحال مع الإصابة بأمراض شرايين القلب التي أعطى الأمل للناس اكتشاف الأطباء أن ارتفاع الكولسترول وارتفاع ضغط الدم وعدم انضباط مرض السكري أو التدخين أو الكسل البدني، جميعها عوامل ترفع من احتمالات خطورة الإصابة بأمراض شرايين القلب. أي مجموعة من العوامل التي يمكن التعامل معها، مقارنة بالعوامل الأخرى التي لا حيلة إزاءها، كالوراثة والتقدم في العمر.

الثاني: وجود «نهج غذائي» قديم وحديث يتبنى الاكتفاء بتناول المنتجات الغذائية النباتية فقط كمصدر للغذاء اليومي، والامتناع التام أو الجزئي عن تناول أي منتجات غذائية حيوانية أو بحرية المصدر. وصحيح أن لهذا «النهج الغذائي النباتي» أصول تاريخية واجتماعية ونفسية لا علاقة لها بالطب أو بالأمراض، إلا أن متبنيها والمروجين لها وجدوا في اكتشاف الأطباء للإكثار من تناول الشحوم الحيوانية المشبعة والكولسترول علاقة بارتفاع الإصابة بأمراض شرايين القلب، واكتشافهم أن للجوء إلى تناول الألياف النباتية والدهون النباتية غير المشبعة علاقة بخفض الإصابة بأمراض شرايين القلب، وسيلة دعائية كبيرة.

الثالث: وضوح الإرشادات الطبية للتغذية الصحية في ضرورة تقليل تناول الشحوم الحيوانية المشبعة وتقليل تناول الكولسترول الغذائي، وحثها على خفض وزن الجسم وعدم إعطاء الفرصة لحصول السمنة لدى أي إنسان. ولأن اللحوم الحمراء هي أول ما يتبادر للذهن كمصدر غني بالشحوم وبالكولسترول، سواء كان هذا صحيحا أو خطأ، فإن التفكير التلقائي للكثيرين اتجه نحو احتمالات أن يكون تناول اللحوم الحمراء هو السبب المباشر وراء ارتفاع الإصابات بأمراض العصر، أي شرايين القلب والسرطان. هذا مع تذكر أن اللحوم الحمراء ليست هي وحدها المحتوية على الدهون المشبعة والكولسترول، فهناك مشتقات الألبان ولحم الدجاج والسمن الحيواني. ومع تذكر أيضا أن ثمة لحوما حمراء متدنية المحتوى من الدهون المشبعة والكولسترول، كلحم الجمل.

* دراسات طبية

* في عدد 24 مارس (آذار) الماضي من مجلة أرشيفات الطب الباطني الأميركية، نشرت دراسة فيدرالية أميركية حول الأضرار المحتملة لـ «الإكثار» من تناول اللحوم الحمراء أو تناول اللحوم. وهي دراسة واسعة شملت أكثر من نصف مليون شخص من متوسطي العمر والبالغين، واستمرت حوالي عشر سنوات. وتعتبر الأولى التي ربطت بشكل مباشر ما بين الوفيات وتناول اللحوم الحمراء. وذكرت في نتائجها ما مفاده أن تناول اللحم الأحمر أو اللحوم المعدة بطريقة صناعية processed meat، كالنقانق وغيرها، بصفة يومية وبكمية تتجاوز أربع أونصات ونصف، أي حوالي 130 غراما، يرفع بدرجة متوسطة خطورة الوفاة بسبب أمراض القلب أو السرطان أو أمراض أخرى، مقارنة بتناول كميات «أقل» من اللحوم الحمراء ومن اللحوم الأخرى المعدة بطرق صناعية. وتحديدا، ترفع الوفيات بنسبة 30%. وهو ما يعني أن «تقليل» تناول اللحوم الحمراء، والعودة إلى إرشادات الهرم الغذائي، وسيلة لتحسين الصحة وفرص الحياة.

إلا أن الدراسة، وبالمقابل، لم تجد فائدة كبيرة، بل تقليلا صغيرا في نسبة الوفيات لدى من يتناولون اللحوم البيضاء بالعموم، أي مجموعة الأسماك والدجاج والديك الحبشي.

وذكر الباحثون والمعلقون الطبيون عدة تفسيرات لتسبب الإكثار من تناول اللحوم الحمراء واللحوم المعدة بطرق صناعية في هذا الارتفاع المتوسط في الوفيات، منها ارتفاع محتواها من الدهون المشبعة والكوليسترول، ومنها طرق الطهي المعتمدة على الحرق المباشر خلال عملية الشواء بصفة غير سليمة ومؤدية إلى رفع نسبة المواد المتسببة بالسرطان فيها. ومنها أيضا ارتفاع كمية الحديد في الجسم جراء تناول اللحوم الحمراء الغنية به، وكذلك احتواء اللحوم المعدة بطرق صناعية على مواد كيميائية معلوم سلفا لدى الأوساط العلمية بأنها ضارة.

وكانت دراسة سابقة قد صدرت في عدد فبراير (شباط) 2005 للمجلة الأميركية لعلم الأوبئة، للباحثين من مايو كلينك، أشارت إلى أن اعتماد النساء على اللحوم كمصدر للبروتينات، بدلا من البقول وغيرها من المنتجات النباتية، يؤدي إلى ارتفاع الوفيات بسبب أمراض شرايين القلب بنسبة 30%. إلا أنها لم تجد للأمر علاقة بارتفاع الوفيات بسبب السرطان أو غيره. وتابعت الدراسة حوالي 30 ألف امرأة ممن بلغن سن اليأس، ولمدة 15 سنة. وأوصى الباحثون النساء باللجوء إلى تناول البروتينات من اللحوم البيضاء ومن المنتجات النباتية، كوسيلة لتقليل احتمالات الإصابة بأمراض شرايين القلب.

وفي مجمل الدراسات التي تناولت هذا الموضوع، كان التركيز على بيان ضرر «الإكثار» من تناول اللحوم الحمراء، وخاصة المعدة بطرق صناعية، وضرر تناولها بشكل يومي، ومن النوعيات عالية المحتوى بالدهون المشبعة والكولسترول. وهو ما يعيدنا إلى ضرورة «الاقتصاد» في تناول اللحوم الحمراء، وضرورة انتقاء الأنواع متدنية المحتوى من الدهون المشبعة والكولسترول، وضرورة طهيها بطرق صحية. ولا تعني نتائج هذه الدراسات البتة، ضرورة الامتناع عن تناول اللحوم الحمراء، أو إثبات أي جدوى لهذا السلوك بالنسبة لجميع الناس.

* لحوم حمراء وبيضاء

* يصنف الناس عموما اللحم إلى أبيض وأحمر اعتمادا على اللون الظاهر للحم حال كونه نيئا، وتصنيف اللحم بأنه أحمر حينما يكون نيئا لا يعني أن اللون قد لا يتحول إلى الأبيض خلال عملية الطهي. وعلى الرغم من البساطة الظاهرية للأمر، إلا أن هناك طريقتين مختلفتين في الأوساط العلمية والإنتاجية لتصنيف اللحوم إلى هذين النوعين. تعتمد الطريقة الأولى ببساطة على اللون الظاهر للحم حال وجوده نيئا. ويكون الفارق الرئيسي بين نوعي اللحم هو وجود تركيز عال لمركبات «مايوغلوبين» myoglobin في أنسجة اللحوم الحمراء، وتركيز منخفض لهذا المركب في اللحوم البيضاء. وذلك بالمقارنة مع محتوى مركبات «مايوغلوبين» في لحوم الدجاج والأسماك البيضاء. وهذه الطريقة هي المعتمدة من قبل وزارة الزراعة الأميركية في تصنيفها للحوم. وبهذه الطريقة تكون لحوم البقر والضأن والجمل والغزال والخيول والخنازير والحمام والبط وغيرها، هي بالتأكيد من أنواع اللحوم الحمراء. ومن أمثلة اللحوم البيضاء الأكيدة، لحوم الدجاج والأسماك والأرانب والروبيان واللوبيستر وغيرها. إلا أن هذه الطريقة تصنف لحوم العجول الصغيرة، والتي لا تتعرض للضوء، ولحوم الحملان الرضيعة وصغار الخنازير، لحوما بيضاء باعتبار لونها الظاهر وليس باعتبار محتواها من مركبات «مايوغلوبين». وهذا يعتبر تجاوزا للمبدأ، لأن هذه الأنواع من اللحوم تحتوي كميات «مايوغلوبين» أعلى مما هو في لحوم الدجاج والأرانب. أما الطريقة الثانية والأحدث، فتعتمد على كمية محتوى اللحوم من الدهون المشبعة، أي الشحوم. وهي تعتبر وصف «اللحم الأبيض» كرديف لـ «اللحم الصحي». وعليه فإن لحوم العجول والحملان الصغيرة هي لحوم حمراء. ولحوم الأسماك، حتى الحمراء اللون في الظاهر، هي لحوم بيضاء. إلا أن الإشكالية هي في لحوم الدجاج ومحتواها غير المتدني من الشحوم. ولذا فإن هذه الطريقة، وإن كانت منطقيا أفضل في توضيح المفيد والقليل الضرر من الناحية الصحية، تحتاج إلى معايير أوضح للاعتماد عليها، خاصة عند الحديث عن أنواع من اللحوم الحمراء التي تحتوي كميات قليلة من الكولسترول والدهون المشبعة، عند إزالة طبقات الشحم عنها، أي «الهبر»، مثل لحم الجمل. ومعلوم أن قطع «الهبر» من لحم الجمل تحتوي على كولسترول ودهون مشبعة بنسبة أقل من تلك الموجودة في «هبر» لحم الدجاج الأبيض اللون.

* حاجة الجسم.. لتناول المنتجات الحيوانية

* المرجع الطبي لتغذية الإنسان هو ما يتم تلخيصه في «الهرم الغذائي». وهو عبارة عن توضيح مختصر للمنتجات الغذائية ومدى حاجة الجسم اليومية منها. و«الهرم الغذائي» في إصداراته الحديثة يتحدث ضمن ثلاثة عناوين لأصناف من المنتجات الحيوانية المصدر، ومدى أهمية تناولها والكمية التي يحرص علي تزويد الجسم بها. العنوان الأول هو «الأسماك، الدواجن والبيض». ويذكر أن هذه الأطعمة مصادر مهمة للبروتينات. وأن ثمة كمية كبيرة من الدراسات الطبية التي تشير إلى أن تناول لحوم الأسماك يخفض الإصابات بأمراض القلب، والسبب هو احتواؤها على دهون أوميغا ـ 3 الصحية. وأن لحوم الدجاج والديك الرومي مصدر جيد للبروتينات، وأن محتواها من الدهون الحيوانية المشبعة منخفض نسبيا. وأنه كانت هناك نظرة سلبية، ولفترة طويلة، تجاه البيض نظرا لاحتوائه على كمية عالية نسبيا من الكولسترول. ولكن اليوم هناك شكوك علمية كثيرة حول صحة هذه النظرة السيئة للبيض، والحقيقة أن الإفطار على البيض أفضل بكثير من تناول الدونات (الكعكات المشبعة بالدهن) المعدة باستخدام الزيوت المهدرجة الغنية بالدهون المتحولة trans fats. والإفطار بالبيض أفضل من الكعك المصنوع من دقيق القمح المكرر والخالي من قشور حبوب القمح. ولأن مرضى السكري ومرضى شرايين القلب عليهم تقليل تناول البيض، أي ثلاث بيضات في الأسبوع، فبإمكانهم الحصول على البروتينات من البيض الغني بها عبر تناول بياض البيض. ومعلوم أن بياض البيض غني بالبروتينات وخال من الكولسترول، وهو الذي توجد فيه المواد التي تتسبب بحساسية البيض لدى البعض. والعنوان الثاني «مشتقات الألبان»، والتي يحرص على تناول حصة أو حصتين يوميا منها. والسبب هو أنها مصدر للبروتينات وللكالسيوم وفيتامين «دي». ولكن بمراعاة انتقاء أنواع «مشتقات الألبان» القليلة أو الخالية من الدسم، وذلك لكي لا تتحول هذه الأطعمة كمصدر لتزويد الجسم بكميات عالية من الدهون الحيوانية المشبعة والكولسترول.

أما العنوان الثالث، والمهم فيما يجري الحديث عنه، فيقول: تناول اللحوم الحمراء والزبدة بـ «اقتصاد»، أي بكميات قليلة. ولذا فإن «اللحوم الحمراء» وضعت في قمة الهرم، أي للدلالة على ضرورة تناول كميات ضئيلة منها. والسبب لا يتعلق بحمرة أو بياض اللحم، بل يتعلق بالمحتوى العالي للدهون المشبعة عموما في اللحوم الحمراء. ولمن يحبون تناول اللحوم يوميا، كمصدر للبروتينات، فإن الحل هو في اللجوء إلى لحوم الأسماك أو الدجاج أو البقول النباتية، وهو ما ثبت أنه يسهم في خفض ارتفاع الكولسترول أو منع حصوله. وكذلك التحول عن الزبدة إلى زيت الزيتون بالذات.

وعليه فإن المهم هو تزويد الجسم بحاجته اليومية، والمعتدلة، من البروتينات. واللحوم الحمراء ليست هي المصدر الوحيد المتوفر لذلك، بل هناك لحوم الأسماك، والدجاج، والبقول، ومشتقات الألبان القليلة أو الخالية من الدسم. ومع هذا تظل اللحوم الحمراء هي الأغنى بمعدن الحديد، وبصفة يسهل على الأمعاء امتصاصها، والأغنى بمادة كرياتين المهمة في إنتاج العضلات للطاقة، وبمعادن أخرى كالزنك والفسفور، وفيتامينات مثل النياسين وبي ـ 12 والفولييت والثيامين وغيرها، وبواحد من أقوى مضادات الأكسدة، وهو مادة حمض ألفا ليبويك. وفي ظروف صحية معينة، كفقر الدم الناجم عن نقص الحديد مثلا، يكون اللجوء إلى تناول اللحوم الحمراء كمصدر غذائي غني به.
المصدر :الشرق الاوسط