سياسية

تسليم البشير للجنائية.. جدلية الخطوة وقانونية الإجراء

ظلّت قضية تسليم الرئيس السابق عمر البشير مطالب قديمة حاضرة في كل أجندات وأدبيات المعارضة السودانية قبل سقوط الإنقاذ، وظلّت المحكمة الجنائية تُطارِد البشير وتُلاحقه بأوامر القبض عليه، حيث أصدرت أول أمرٍ في العام 2009م بتهمة ارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وجدّدت الأوامر في العام 2010م وأضيفت إليها جرائم الإبادة الجماعية في دارفور والمنطقتين، وفي الثامن عشر من ديسمبر من العام 2019 تقدمت (فاتو بنسودا) المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بدعوى في جلسة لمجلس الأمن الدولي بتقديم البشير للمحاكمة أمام القضاء الوطني، وفي حال عجزها يُقدّم للمحكمة الدولية.

وعلى ذات النسق أُثيرت القضية مُجدّدًا عبر استفسارات وفد الكونجرس الأمريكي الزائر للسودان وفي خلال لقائهم للمدعي العام مولانا تاج الدين الحبر، حول تسليم البشير بعد تغيير الظروف السياسية بالبلاد. وفي رده على استفسارات وفد الكونجرس صرّح الحبر قائلاً: إن تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية مرهون بنتائج المفاوضات الجارية ومتعلق بأطراف عدة بمن فيهم الضحايا وأسرهم، فضلاً عن مسائل قانونية يجب النظر فيها.

البعض قرأ هذه التصريحات بأنها مؤشر لعدم ميول القضاء في السودان لتسليم البشير وخصوصاً عندما رهن النائب بسير المفاوضات والبعض الآخر قرأها بأنها قفزة في الجانب السياسي.

قانونية الخطوة

يقول القانوني الإستاذ والمحامي عثمان محمد، إن القانون الدولي الإنساني يقول إذا كان هناك شخص متهم بجريمة متعلقة بهذه الجرائم الأربع (جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم العدوان)، تعتبر جريمة وفق القانون الدولي الإنساني في المقام الأول، وتنتهك الأمن والسلم الدوليين, وبناءً عليه يُحاكَم بميثاق معاهدة روما الذي تم بموجبه تشكيل المحكمة الجنائية الدولية.

ولكن هذه المعاهدة تُشير إلى أن الدولة المعنية التي ارتُكِبت فيها هذه الجرائم هي الأولى بمحاكمة المتهمين، والقضاء الدولي لا يتدخل إلا في حالتين، الحالة الأولى في حالة عجز الدولة عن المحاكمة، والحالة الثانية صرف النظر عن المحاكمات حينها يحق للمحكمة الدولية التدخّل وفقاً للمعاهدة ومحاكمة الشخص بصفته الشخصية وليست الاعتبارية.

والجانب الذي أُريد الإشارة إليه وأُولِيه الأهميّة هي مسألة توقيع العقوبة على هذا النوع من المتهمين بارتكاب واحدة من الجرائم الأربع في (ميثاق روما)، وما هي طبيعته مقارنته بالقانون الجنائي السوداني؟ نجد أن القانون الجنائي السوداني به عقوبات تصل إلى درجة القصاص في جرائم القتل، بينما في القانون الجنائي الدولي لا يوجد إعدام وأقصى عقوبة هي الحبس.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل تم اتهام البشير بموجب القانون الدولي أم السوداني؟ إذا اتهم بموجب القانون الجنائي الدولي سيُطبّق عليه بما يُسمى معاهدة روما التي الأحكام فيها تنص على الحبس، ولو حُوكِم بالقانون الوطني السوداني فالأحكام فيه معروفة.

تدويل

ويقول عثمان إن إثارة قضية النظام البائد من قبل الحكومة الموجودة في الوقت الراهن، تشير إلى أنها أثيرت في نطاق ما يسمى أو شبيه بالنطاق الدولي أو دُوّلت هذه القضية، بالتالي بمنطق الواقع نقول الأصلح للبشير القانون الدولي وفق المقارنة للأحكام، لأنه سيُعامَل في إطار حقوق الإنسان لو حوكم بالدولي، وسيكون حاله أفضل مما يتعرض عليه الآن. وبشأن مقترح مبارك الفاضل بإنشاء محكمة مختلطة لمحاكمة البشير غير قانوني، وإذا تولى القضاء الوطني محاكمة الشخص لا يمكن أن تُدوّل القضية بتاتاً, وإذا حوكم البشير دولياً فهذا لا ينقص من حقنا السيادي، لأن القانون الجنائي السوداني عُدّل في العام 2009 وأُضيفت إليه هذه الأحكام.

قرار سياسي

وفي إجابته عن السؤال (هل قرار تسليم البشير سياسي أم قانوني، يجيب الأستاذ عثمان بقوله، إن قضية المحكمة الدولية برمتها وكيفية إنشائها وغطائها انحياز الدول إليها في البداية كان وفق الإطار القانوني لكن سُيِّسَت، والآن نحن نقع تحت مشكلة كبيرة جداً، وهي قضية الحصار المفروض علينا من قبل أمريكا، وهو حصار سياسي في المقام الأول لأنه في إطار القانون الدولي تلبس المجرم الثوب بصفته الشخصية وليست الدولية أو الاعتبارية، والآن ذهب النظام بمطلوبيه لماذا ظل الحصار مفروضاً؟

حفظ حقوق

يرى الدكتور أحمد حسن سوار الدهب أن تسليم البشير للجنائية سيحفظ له حقوقه لأننا داخلياً غير مطمئنين على الوضع الراهن، وتسليمه سيهدأ الشارع المغلي والشعب السوداني لأنه سيرى في هذه الخطوة تحقيقاً العدالة. ويضيف بقوله إن القانون السوداني مأخوذ من القوانين الإقليمية والدولية، إلا أننا الآن لا نملك دولة كاملة قائمة لتطبيقه ولا دستور نحتكم إليه، والسياسة الآن تلعب دوراً قذراً ولا نعلم أين سيذهب البشير في ظل هذه الظروف.

سابق لأوانه

ويقول الإستاذ المحامي عبد الرحيم عرجة القيادي بقوى الكفاح المسلح الدارفورية أن هذا الحق حق خاص ويجب الرجوع للضحايا وأسرهم واستفتائهم عن تسليمه أو محاكمته داخلياً ولا يحق لأي جهة البت فيه, ويرى عرجة أن هذا الموضوع سابق لأوانه لأنه وبفقه العدالة الانتقالية يجب أن يسبقه اعتراف من الجناة بمسؤوليتهم التامة عن الجرائم التي ارتكبت بعد ذلك يجب توجيه التهم ومن ثم المحاكمة، ولكن الجناة إلى الآن غير معترفين بهذه الجرائم .

أولوية القضاء الوطني

ومضى عرجة بتأكيده على قانونية الخطوة، لأن قانون المحكمة الدولية يقول يسلم المجرم في حال عجز القضاء الوطني عن المحاكمة، وإلى الآن يرى أن القضاء السوداني ليس عاجزاً وله الأولوية بذلك.

قفزة سياسية

بينما يرى الصحفي والمحلل السياسي شرف الدين محمود رئيس الهيئة القومية للمبادرات الوطنية أن تصريحات النائب العام تشير إلى عدم رغبتهم في تسليم البشير للجنائية الدولية وبالتالي تم رهن تسليمه بسير عملية التفاوض وأسر الضحايا, وهذه إشارة للأطراف المفاوضة في جوبا (الحكومة قوى الكفاح المسلح)، أنه في حال التوصل إلى تسوية سياسية بخصوص تحقيق العدالة في الإطار الداخلي، النيابة العامة ستلتزم بالاتفاق، وفي حال يفضي الاتفاق إلى تسليم البشير أيضاً ستلتزم النيابة بتسليم البشير. وهذا التصريح في هذا الوقت فيه قفزة في السياسة، وكأن النائب العام أراد أن ينأى بنفسه ويلتزم فقط بالاتفاق المبرم بين الطرفين.

والجانب الآخر فيما يتعلق بالجانب التفاوضي نجد أن منهجية إدارة التفاوض بها أخطاء كبيرة، جداً التفاوض بدأ بجهتين مختلفتين، وتعددت المسارات وقضايا السودان المتعددة هذه قسمت وتم التوقيع عليها منفصلة, والجبهة الثورية كانت بمثابة مظلة لكل الحركات وتتحمل الحكومة هذا الانشقاق والتعدد في المسارات، وهذه إشارة غير إيجابية من قِبل الطرفين ورهن تسليم البشير بالاتفاق يؤكد ذلك، وربما لا تتفق كل الأطراف على تسليم البشير وهنا (المحك).

قنبلة موقوتة

ويقول شرف الدين: وفقاً لما يدور في الساحة السياسية السودانية، إن تسليم البشير سيخلق مشاكل عديدة في السودان لأن هذه القضية لها طرفان ينظر إليها كلاهما من جانب مختلف فـ (المعارضون) ينظرون إليها من الجانب الوطني والسيادي, و(المؤيدون) من الجانب العدلي وأخذ الحقوق، والتسليم في هذا الوقت الراهن له دافعان (سياسي ومعنوي) وسيظل هذا الجدل بمثابة قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر تحت أي لحظة وستجر البلاد إلى ما لا يُحمد عقباه.

كرت ضغط

وفي تجديد موقف الجنائية بعد الثورة، عبر المدعي العام للمحكمة الجنائية (فاتو بنسودا)، يرى شرف الدين أن هذه القضية ذات توجّهات سياسية الهدف منها ليس إنصاف الضحايا ولا حباً فيهم، ولكن استخدم ككرت ضغط لإضعاف النظام القائم في السودان، وإلا لماذا تتمسك أمريكا بعدم رفع العقوبات حتى بعد سقوط النظام. وأمريكا ذات نفسها غير موقعة على ميثاق روما، وكثير من الدول وهو غير مهم بالنسبة إليهم. ولكن الذين يسعون لتسليمه من السياسيين يرون أن هذا انتصاراً لقضيتهم .

أفضلية الجنائية

وفي إجابته عن أيهما أفضل للبشير الجنائية أم المحاكم الوطنية، يجيب شرف الدين: الجنائية مبنى من ستة عشر طابقاً به حديقة حيوان وحوض سباحة وغرف مكيفة وكل سبل العيش الكريم والرغد وسيمارس البشير حياته الطبيعية، لأن اقصى عقوبة توقع عليه (المؤبد)، وأنا أنظر لتسليمه من هذا( المنطلق).

الصيحة