لاعب يفعل بالكرة مايشاء……!!!! الطاهر حسيب…ورحل بوشكاش الكرة السودانية + صورة
ولم تخب نبوءة ذلك الرجل، بل إن كل من شاهد الطاهر حسيب يركض بالكرة ويتلاعب بها وهو يسير من منزله الى ورشة الحوض حيث يعمل والده كان يدرك أنه أمام ميلاد موهبة كروية، ولكن لا أحد كان يتوقع مداها.
غير عادي:
بين أزقة وشوارع مدينة بورتسودان اختارت (القسمة) الطاهر حسيب لتجعله أسطورة كروية على حد تعبيره-رغم أن حيه (ديم مدينة) لم يكن يشهد فى ذلك الوقت (دافوري) عادي، ولكنه أخرج للكرة السودانية فلتة كروية لم تتكرر، وربما لن تتكرر لأيضا. فأعطى الطاهر وقته وانتباهته
لمعشوقته كرة القدم، فقد كان لا يعشق الدراسة بقدر حبه للكرة، ينتظر بفارغ الصبر انتهاء اليوم الدراسي ليركض نحو كرته، يحملها معه فى تجواله فى أنحاء المدينة لا يتركها إلا عندما ينام، ولكنها تكون بجواره.
سيرة ناصعة:
دفعه ولهه بكرة القدم الى حافة التلاشي فى ذاتها، قرر أن يفعل بها ما لم يسبقه إليه أحد، بدأ فى وقت مبكر إجراء تمارين إضافية لم تكن مألوفة فى ذلك الوقت، تدرب بكرة التنس، حبة الليمون، وكل ما هو مستدير..انتقل بعدها لإضفاء طابع جديد على تدريباته، أصبح يتدرب على ظهر (فلكة) تترنح فى البحر، ليتعلم الحفاظ على توازنه. وما أن أكمل التاسعة من عمره حتى خرج للناس من خلوته الكروية ساحرا يدهش المشاهدين، ويمتع أبصار جمهورها العريض طوال ثلاثة عقود قضاها فى المستطيل الأخضر (الستينات، السبعينات، والثمانينات) لذلك فإن الطاهر حسيب يعتبر من أطول لاعبي كرة القدم عمرا على مستوى الملاعب ليس فى السودان فحسب بل فى العالم كله إذ لعب لأكثر من 35 سنة بإبداع تام، وكلما نوى الاعتزال عدل عن رغبته بناء على رغبة الجمهور، حتى بلغ به العمر عتيا فتركه الناس يستريح ولكنه يشارك لماما فى المهرجانات الرياضية بدون انقطاع فيفعل بالكرة ما كان يفعله فى صباه.
بدايات الطريق:
دشن الطاهر حسيب مشواره الكروي بنادي الثغر ببورتسودان فى العام 1956م، حيث استدعوه للقهوة وتم تسجيله مقابل خمسة جنيهات مصرية، لكن الصبي النحيل الأسمر والذى لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره مكث عاما كاملا على دكة الاحتياطي، قبل أن يحرر المارد من قمقمه ويلعب أول مباراة ضد فريق الجهاد، الذى جاهد لاعبوه كثيرا لإيقاف ذلك الصبي الصغير الذى ينتعل «باتا» ويلعب فى خانة الجناح الشمال، ولكن هيهات…هيهات فالطاهر لم يكن ينوي التفريط فى فرصته، فتلاعب بخصومه، وفعل العجب ليدهش زملاءه ومدربه قبل الجمهور والخصوم، وينجح فى إحراز هاتريك، مما جعل الجمهور يعجب بهذا الفتى (الفات الكبار والقدرو)، ويتوقع له مستقبلا باهرا، ويدعو بقلوب ميقنة: «الله يخليهو الولد دا»….من ذلك الوقت ثبت الطاهر حسيب أقدامه جيدا على المستطيل الأخضر، وفعل بالكرة ما لا يصدقه عقل بشري.. فكأنها مربوطة بخيط رفيع على طرفي قدميه..يحركها كما يشاء وليس كما تشاء..تكن غبيا إن مددت رجلك لتستخلصها منه ..فإنك إذا لا تسلم من أن يمررها بين قدميك أو يعليها فتطال قامة رأسك القوى..فمن قال ليك خش عليهو على حد تعبير الزميل الصحفي حسام ميرغني- المتيم بعشق إبداع الطاهر.
افادات مذهبة:
رفقاء دربه من اللاعبين تحدثوا عنه بالكثير من التفصيل…فقد قال عنه اللاعب الكبير بابكر سانتو أن حسيب هو أعظم لاعب سوداني، ويضيف: (لأنو كان لاعب صاحب مواهب مدهشة، وعنده خيال واسع، ولو جينا للحق الكان بعمله الطاهر حسيب اسع رونالدينهو ما بعمل نصه)..
وفى ذات السياق يعزز رفيق دربه الكروى الكابتن بافلى محمود جعفر الصورة الأسطورية للطاهر حسيب كلاعب كرة من الطراز الأول، بل ويشير للجانب المرح، مما يجعل الرجل يمتع الجمهور بفواصل من المتعة الكروية التى تتخللها فصول كوميدية بين الحين والآخر. ويقول بافلى إنهم ذهبوا فى السبعينات ضمن رحلة لناديهم الثغر ليلاعبوا فرقا سعودية، فتلاعبوا بفرق جدة الاتحاد والأهلى والوحدة مكة، وفعل الطاهر فى تلك الرحلة حركات عجيبة حيرت السعوديين، وفى مباراة الوحدة مكة سحب بالكرة اربعة مدافعين فى هجمة أخرى وانفرد بالحارس، فأخذ يغمز الكرة بطرف الكدارة فتتحرك فى حلزونية نحو المرمى، فيقع الحارس ليمسكها، لكن الكرة تعود للطاهر المنتظرها فيفعل الحركة مرة ثانية وثالثة ورابعة والحارس يقع ويقوم..فى الآخر ترك الحارس المرمى خاليا وذهب قائلا: (والله ها دا مش زول..دى حركة شيطان مايفعلها).
واقعة على لسانه:
وتبدو هذه الواقعة قريبة مما رواه الطاهر حسيب بنفسه، ففى مباراة مصيرية لفريق الثغر انخرط حسيب بالكرة وراوغ سبعة لاعبين قبل أن يصل لحارس المرمي، الذى تلاعب به أيضا، وموه بكرته الحلزونية فعلق اللاعبين فى الشباك الداخلية للمرمي، والطاهر (يضقل) بالكرة على خط المرمي، فاندفع حكم المباراة نحوه يطلب منه أن يدخل الكرة المرمي، والطاهر لا يعبأ بحديثه..فتحول خطاب الحكم للهجة استجدائية: «يا ابني شووت وريحنا.. جبت لي لوز»، عندها مل الطاهر ومرر الكرة بهدوء لتعبر خط المرمي معلنة عن هدف. فما كان من الحكم وقتها إلا أن تنهد بارتياح وصفر، ثم التفت نحوه وقال على بالطلاق تاني كورة إنت فيها أنا ما أحكمها).
طرائف أخرى:
وطرائف حسيب مع الحكام لا تنتهي ويروى أن الطاهر فى مباراة رفع الكرة عاليا وتلقفها بفنيلته ومسك طرفى الفانلة وجرى بالكرة دون أن تلامس يده فوضعها فى الشباك وسط دهشة الحكم والجمهور ولاعبى فريقه والفريق الثانى، واحتار الحكم حينها فى أن يحتسبها مخالفة أم يحتسبه هدفا، فاضطر لإلغاء المباراة بعد احتجاج الجمهور الخصم على فعلة الطاهر الغريبة والتى تحكي عن موهبة عالية!.
وفى مباراة أخرى بين الثغر مع دبايوا انتهت فى زمنها الأصلي بالتعادل ودخل حسيب فيها متأخرا لجأ الحكم للقرعة لحسم المباراة، والطاهر كان يرغب فى إعادتها بأي شكل…الحكم يجدع الريال الطاهر يلتقطه قبل مايقع فى الأرض بالكدارة دون أن يراه أحد حتى خلصت قروش الحكم ولم تنته القرعة فاضطر لإعادة المباراة بعد أن أظلم الليل واستحالت الرؤية .. وأثناء خروجهم من الملعب ناول حسيب الحكم ريالاته بعد أن أخرجها من بطن الكدارة وقال للحكم : «هاك قروشك ..اركب بيهم مواصلات!»، وأعيدت المباراة وانتصر الثغر بهدفين أحرزهما حسيب..!!
(8)
وفى بداية العام 1963 سافر الطاهر حسيب الى الخرطوم، حيث تم تسجيله بفريق الهلال العاصمي بواسطة رئيس النادي فى ذلك الوقت مصطفى كيشو، بمبلغ قدره 17 جنيها، ويقول حسيب ما كنت متوقع انو ألعب يوم فى الهلال،أنا كان نفسي أشوف سبت دودو، أمين زكي، ابراهيم الكوارتي، يونس الله جابو وبقية نجوم الفريق فى ذلك الوقت، وربنا جعلني ألعب معاهم ووسطهم بدل أشوفهم بس).
وفى أول تمرين حضر الطاهر مع كيشو من الفندق للميدان الشرقي بجامعة الخرطوم، فوجد الفريق قد بدأ إجراءات الإحماء (السويدي)، وكان يدرب الفريق فى ذلك الوقت المدرب اليوغسلافى استاروستا، التمرين كان بحضور كبار إداريي الفريق، وفى ذلك الوقت اختلف إداريو الفريق مع كيشو على تسجيل لاعب صغير السن والحجم بهذا المبلغ الكبير، فأراد كيشو أن يثبت لهم وللمدرب أنه يستحق هذا المبلغ وأكثر منه، فطلب منه إجراء بعض الحركات بالكرة لإظهار مهارته أمام الجميع، استاروستا كان على علم بالخلاف الإداري حول تسجيل حسيب، فكان يراقب الموقف من بعيد، وهو يتابع إحماء اللاعبين.
لم يشأ الطاهر حسيب كشف كل أوراقه، وبتواضعه المعهود جذب كرة الى خارج خط الـ(1، وأصبح يسدد الكرة فى المرمي الخالي، ولكنها لم تكن تلج الشباك بل كانت ترتد من العارضة لتعود إليه مجددا، كرر الطاهر ذلك عشرات المرات، فكان يسدد الكرة بتركيز عالٍ، ومهارة فائقة لترتد عن العارضة فقط. ولما انتهى التمرين طالبت الإدارة بتجريب اللاعب الجديد، ولكن استاروستا بنظرته الثاقبة رد عليهم: ( طاهر ما محتاج تدريب..وبعدين شوفوه).
عقد إحتراف:
وفى تلك الفترة تلقى الطاهر عرضا من فريق الأهلي المصري، إلا أن والده رفض سفره وأصر على بقائه بجواره، وقد ترك الطاهر فريق الهلال ولم يستمر فيه طويلا ليعود الى مدينة الثغر لأسباب عائلية. وتكررت عروض الاحتراف عليه ولكن هذه المرة من الأندية السعودية، ولكنه اكتفى برفضها أيضا.
وجه آخر:
فى قمته الكروية ورغم نجوميته إلا أن الطاهر كان يعيش حياة المبدعين المتواضعين دون تعال أو عنجهية. بسيطا كما موهبته المبدعة، حياته بسيطة الى أقصى حد، تجده حاليا يجوب شوارع بورتسودان بدراجته النارية الزرقاء، يعايش أفراح الناس ويشاركهم أحزانهم…وما لا يعرفه الكثيرون عن الرجل أنه يطرب الى أقصى حد لأغاني فريد الأطرش، وعندما سألته عن السبب قال الحزن يستوطن معظم أغانيه، والحياة دون حزن ليس لها معنى)….والمدقق فى ملامح الرجل يجد خلف مرحه المعهود غلالة من الحزن والوحدة، سألته عن ذلك فأجاب باقتضاب شديد: «أنا وحيد النفس، لا أتدخل فيما لا يعنيني..عادة أسمع ولا أرد». ورغم أن الطاهر يتمتع بعلاقات اجتماعية واسعة وجيدة، إلا أن مهارته الفائقة وموهبته المدهشة جلبت عليه بعض سياط الحسد، فلم يعرها اهتماما وهو يواصل مسيرته.
الرحيل المر:
رحل عنا امس هذا النجم الفلتة والنادر، بعد معاناة مع المرض..وهو في طريقه للعلاج من بورتسودان، وبرحيله ينطفئ قنديل آخر في بستان الرياضة السودانية..فله الرحمه والمغفرة..بقدر مااسعد الملايين من هذا الشعب…[/JUSTIFY]
الله يرحم الطاهر حسيب سمعنا به قبل ان نراه …
اسطورة الملاعب السودانية بحق وحقيقة وفلتة لن تتكرر ابدا